شهيد الوطنية الفلسطينية

BdsJ4.jpeg
حجم الخط

بقلم رجب أبو سرية

 

 

 

في الذكرى السابعة عشرة لرحيل الزعيم الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات، يستذكر الفلسطينيون واحداً من أهم القادة التاريخيين الذين حملوا راية فلسطين عالياً، على مدار نصف قرن، أحيا خلاله القضية الفلسطينية التي حاول العدو الإسرائيلي ان يجعلها نسياً منسياً، لكن جيلاً من رواد الهوية، تقدمهم ياسر عرفات أفشلوا الهدف الصهيوني رغم قوة وسطوة العدو، ورغم تحديات المرحلة الزمنية أو العصر الذي شهدت فيه فلسطين أعتى هجمة استعمارية في العصر الحديث .
 وفي حضرة ذكرى رحيل القائد، لا نبالغ لو قلنا بأن الشعب الفلسطيني، رغم انه قدم عشرات آلاف الشهداء على مر أكثر من سبعة عقود من تاريخ مواجهته للهجمة الصهيونية متعددة المراحل، إلا أن لحظة غياب ياسر عرفات كانت فارقة بالنسبة لها، وهي تعد لحظة من اللحظات الصعبة التي تلي عام النكبة بكل ما فيها من ذكرى مريرة ومؤلمة، والشعب الفلسطيني، الذي ربما يعد من أكثر الشعوب التي قدمت الشهداء في سبيل الحرية الوطنية، والذي يعد صاحب أطول حركة تحرر في التاريخ، حيث إن الموجة المستمرة منذ أكثر من خمسة عقود بكل مراحلها: الكفاح المسلح، والمقاومة الشعبية، ما زال يدين بفضل إطلاق الرصاصة الأولى والحجر الأول لقائده التاريخي، ياسر عرفات.
وياسر عرفات، الذي احتل المكانة الأولى، او موقع القائد الأول لحركة التحرر منذ عام 1969، حتى عام 2004، هو مطلق الهوية الوطنية التي كانت قبله غير معرفة، أو عرضة للتبديد، ويمكننا ان نقيم مقارنة موضوعية جداً، بعيدة عن الإنشاء اللغوي، ودون تأثر بمكانته في قلوب الناس التي ما زالت في الصدارة رغم مرور سبعة عشر عاماً على رحيله، بما كان الحال الوطني عليه قبله، ثم ما صار عليه خلال حياته وقيادته للثورة الفلسطينية المعاصرة، ثم ما صار عليه الحال من بعده.  
منذ بدء الهجمة الصهيونية في ظل الانتداب البريطاني، حتى عام النكبة 1948، قاوم الشعب الفلسطيني بشكل عشوائي، وحتى جهوي سياسياً وعسكرياً، ولم تخرج حركة التحرر الفلسطيني الى ما وراء حدود فلسطين التاريخية، كذلك لم يتحدد الهدف الناظم لمجموعات المقاومة، وكذلك لم يتوحد جهد المقاومة السياسي مع الفعل المقاوم الميداني العسكري، وهكذا واجه الشعب الفلسطيني عدواً مزدوجاً ممثلاً بالانتداب البريطاني الذي كانت بلاده قد منحت الصهيونية وعد بلفور قبل دخولها أرض فلسطين، وسعت الى تنفيذ ذلك الوعد خلال ثلاثة عقود لاحقة، كانت تحتل خلالها أرض فلسطين.
وكل ما كان يستند اليه الشعب الفلسطيني هو بعض العمق العربي الذي كان بدوره يعاني من فساد الأنظمة، وكانت النتيجة ان احتلت العصابات العسكرية الصهيونية نصف أرض فلسطين المقررة للدولة العربية الفلسطينية حسب قرار التقسيم الصادر عام 1947، أو ثلاثة أرباع ارض فلسطين التاريخية.
أما ما تبقى فتم إلحاقه بالأردن، بما حال دون قيام دولة فلسطينية مستقلة، ليس وفق رغبة وإرادة الشعب الفلسطيني وحسب، ولكن أيضاً وفق رؤية الأمم المتحدة، كحل لصراع إقليمي لم يقتصر فعلاً على الشعب الفلسطيني والعدو الإسرائيلي، بعد أن أعلن زعيم أكبر عصابة صهيونية، ديفيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل في الخامس عشر من أيار 1948، بعد ساعات من إعلان بريطانيا العظمى انتهاء انتدابها على فلسطين.  
هكذا انتهى الفصل الأول من التغريبة الفلسطينية بنكبة العام 48، لتوصل الدول العربية مجتمعة الحديث باسم شعب فلسطين، واحتلال مكان الطرف المواجه لإسرائيل في الصراع الإقليمي، لينتهي الفصل الثاني بنكسة العام 1967، حيث حينها تقدم ياسر عرفات ليحمل راية فلسطين باسم الشعب الفلسطيني، وهكذا بدأت مرحلة الوطنية الفلسطينية في ساحة المواجهة مع العدو الصهيوني.
توالت بعد ذلك الانتصارات العسكرية والسياسية، فلم يمر سوى قليل من الوقت وكان الفدائيون الفلسطينيون يحققون نصراً مؤزراً على الجيش الإسرائيلي في «الكرامة» الأردنية، بقيادة ياسر عرفات، الذي جعل من ذلك اليوم يوماً فاصلاً في تاريخ فلسطين والمنطقة، صارت معه فلسطين حاضرة كرقم صعب في معادلة الصراع الإقليمي حول فلسطين.
ثم تلى انتصار الكرامة فتح سياسي لاحتلال (م.ت.ف) مقعد العضو المراقب في الأمم المتحدة، بما فتح الباب واسعاً من أجل استقلال فلسطين وقيام دولتها المستقلة، وقاد ياسر عرفات معركة القرار السياسي المستقل، مع بعض الأشقاء، وكذلك تمثيل فلسطين، فيما كان يخوض معركة اعادة فلسطين لتدخل التاريخ، كمقدمة لدخول الجغرافيا، وقاد المقاومة المسلحة خلال عقد ونصف، اي من عام 1967 حتى عام 1982، لجيل من الكفاح العسكري كأداة لتحقيق الهدف السياسي المتمثل بالحرية والاستقلال وقيام دولة فلسطين، وفعل ذلك عبر تحقيق الوحدة الداخلية، رغم وجود التباينات الأيدلوجية والسياسية وحتى الولاءات الإقليمية بين الفصائل الفلسطينية.  
وعلى الصعيد الشخصي رفض ياسر عرفات ان يمضي كما يرغب له الأعداء، كأسير أو كشريد، بل قضى كشهيد بما يليق بسيرته ومسيرته الوطنية، ليغدو سيد شهداء فلسطين من القادة والزعماء، فيما شهدت فلسطين من بعده أسوأ انقسام داخلي، ما زال يلقي بثقله الرديء على معركة الحرية والاستقلال، بحيث أن ما كان يحلم به الراحل العظيم من لحظة يرفع فيها شبل او زهرة من أشبال أو زهرات فلسطين علمها فوق مآذن وكنائس القدس ينتظر لحظة تحققه، بل إن رفاته هو نفسه، ما زال ينتظر على مشارف القدس أن يتم نقله الى داخل أسوارها التاريخية، حتى ترتاح روح عاشت وقضت من أجل فلسطين، في مستقرها الأخير.
قضى الراحل عرفات وهو يحلم بدولة فلسطين المستقلة التي قاد النضال الوطني طوال نصف قرن من أجل تحقيقها، وحيث لم يذهب تراثه هدراً، فإن معركة الحرية والاستقلال ما زالت تدور رحاها في ما بين حدود فلسطين التاريخية، بهدف إقامة دولة فلسطين المستقلة على أرض فلسطين، مهما طال الزمان، وشاء من شاء وأبى من أبى.
هذا ما كان عليه ياسر عرفات، عراب الوطنية الفلسطينية وباعث هويتها المعاصرة، والمنتقل بها من ظلمات التبديد الى فضاء الحضور، حتى جعل منها قضية التحرر العالمي، أما أبناؤه وأحفاده، فما عليهم سوى السير على طريقه ودربه حتى النصر الذي لا يكون إلا بتحقيق الهدف الأسمى وهو إعلان دولة فلسطين على أرض فلسطين التاريخية.