تداولت وسائل التواصل الاجتماعي في الأيام الأخيرة نبأ اعتقال عدد من الأشخاص من بينهم وزير الاقتصاد الأسبق الأخ مازن سنقرط وسط تكهنات واشاعات لم تخل من الخيال الجامح والشطط. ولم يمض يومان إلا وتم الافراج عنه وإصداره بياناً للرأي العام يؤكد أن لا أساس لما أشيع وأنه حر يمارس حياته وعمله كالمعتاد. ولا يستطيع المراقب إلا طرح عدد من الأسئلة تفرض نفسها بإلحاح. أولها عملية الاعتقال بحد ذاتها وثانيها الإعلان عنها وترك المجال مفتوحا ً أمام وسائل التواصل على مدى يومين لتداول اشاعات أقل ما يُقال فيها أنها شكلت إساءة للرجل ولسمعة السلطة الفلسطينية وللاقتصاد الفلسطيني بشكل عام.
فالرجل هو شخصية مقدسية مرموقة وهو من رجال الصف الأول في القطاع الاقتصادي وهو وزير سابق وعضو في مجلس الأوقاف وفي العديد من مجالس الشركات والجمعيات الأهلية واعتقاله ومحاولة تشويه صورته لا شك بأنها تسيء لكل ما هو ينتمي إليه أو يمثله. فكيف يتم اعتقال رجل بهذه المواصفات فقط لشبهات دارت حوله أو اشاعات مغرضة بثها بعض خصومه.
والكل يدرك أن هناك حملة ممنهجة لتشويه صورة السلطة الفلسطينية ودمغها بالفساد ولا شك بأن اعتقال وزير سابق يعزز هذه الحملة ويسهم في تقويتها وبالتالي يخدم من يحاولون تشوية سمعة السلطة والانتقاص من قدرتها على إدارة الشأن الوطني، ولا شك بأن اعتقاله يلحق أيضا ضربة بالاقتصاد الوطني ويزعزع الثقة بالتعامل معه وخاصة فيما يتعلق باستيراد المنتجات الفلسطينية.
وإذ أقول هذا فإنني أؤكد بأن أحدا ليس فوق القانون وأن العدالة يجب أن تأخذ مجراها وأن كل شخص أيا ً كان موقعه، يجب ألا يكون محصنا ضد المحاسبة والمساءلة. ولكني أعتقد في نفس الوقت بأن تطبيق القانون وتحقيق العدالة يجب أن يتم أيضا في سياق القانون وبالأخذ في الاعتبار مبدأ كل متهم بريء حتى تثبت ادانته.
وفي الحالة التي أمامنا وبالأخذ بعين الاعتبار المواصفات والصفات التي يحملها الرجل فقد كان الأجدر التعامل معه حسب الأصول المتبعة في أكثر الدول عراقة في النزاهة واحترام حكم القانون. وأعني أنه كان يجب على الشرطة والنيابة بما في ذلك نيابة هيئة مكافحة الفساد البحث والتحري وجمع الأدلة القطعية قبل الاعتقال ومن ثم استدعاء الشخص المعني الى جلسة تقصي واستيضاح بدون ضجيج اعلامي ومواجهته بما لديها من معلومات واعطائه الفرصة لتوضيح الأمر من جانبه سواء نجح في دحضه أم لم ينجح وبعد ذلك إجراء المقتضى القانوني على ضوء ما تخلص إليه من استنتاجات بعد جلسة التقصي والاستيضاح لا أن تقوم باعتقال دراماتيكي يثير الاشاعات والتقولات ثم يتمخض الجمل فيلد فأراً.
وفي معزل عما قلته أعلاه فإنني لا أجد مناصا من تناول موضوع منتجات المستوطنات بشكل عام وما يجري بشأنها، وحالة انفصام الشخصية التي نعاني منها. فنحن نطالب العالم بمقاطعة منتجات المستوطنات ونهلل ونكبر كلما سمعنا أحدا ً يقرر مقاطعتها أو يؤيد مقاطعتها، ولكننا نحن أنفسنا لا نقوم بذلك. فنحن نبني المستوطنات ونعمل في مصانعها وحقولها ولم ننجح بعد ربع قرن من قيام السلطة في وضع استراتيجية وطنية لكيفية معالجة هذه الظاهرة وتجفيف مصادر الأيدي العاملة بالمستوطنات باعتبار أن تلك هي الوسيلة الأنجح للحد من نمو المستوطنات عمرانيا ً واقتصاديا.
والأدهى من ذلك هو أن هناك تجار فلسطينيون يقومون بتهريب منتجات المستوطنات الى الأسواق الفلسطينية رغم محاولات المنع التي تقوم بها الجهات المختصة ونجاحها بذلك بين الحين والآخر ولو بشكل جزئي جدا. ولم يعد من المستغرب وجود تلك المنتجات معروضة في الأسواق التجارية “على عينك يا تاجر” حتى في منتصف رام الله. وهناك تجار فلسطينيون لهم “كوتا” لتصدير بعض المنتجات الزراعية التي من انتاجهم الى الخارج، ولكن تلك الكوتا أكبر من محاصيلهم فيقومون بشراء منتجات المستوطنات سرا ً وتصديرها على أنها منتجات فلسطينية. ويبقى السؤال الى متى!
إن كل ما يتعلق بطريقة تعاملنا مع المستوطنات وعملنا بشكل غير مباشر على تثبيت وجودها فوق أراضينا لهو أمر يرقى الى درجة الخيانة الوطنية. فالموضوع لا يُعالج بالتصريحات النارية ولا ببيانات الشجب والإدانة وإنما علينا أن نبدأ بمحاسبة أنفسنا كشعب ومؤسسات وشركات ومنظمات مجتمع مدني بما فيها نقابات العمال والأفراد.
نحن نواجه احتلال استيطاني بمعنى أنه ليس احتلالا ً عسكريا فحسب، بل هو احتلال إحلالي جاء بشعبه الى أرضنا لإحلالهم مكاننا ولطردنا من هذه الأرض بشتى الوسائل التي تتاح له بما في ذلك تضييق سبل العيش أمامنا لحملنا على الهجرة والرحيل. ولا شك بأن الأمر كان يمكن أن يكون أسهل عليه لو لم تكن هناك سلطة تجسد الكل الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة. ولكن هناك مساحات ومجالات واسعة جدا ً للعمل لا تزال السلطة قاصرة عن العمل فيها لانشغالها بالشأن اليومي من جهة وبالشأن المظهري لاعتقادها بأنها دولة، ولافتقارها للشرعية الانتخابية التي لو وجدت لكانت أقوى داعم ورافد لتمكين السلطة من القيام بهذا الدور الوطني الذي ما زالت عاجزة عن القيام به.
وأخيرا ً أقول بأن مشكلتنا الأساسية هي الاستيطان والمستوطنات وأن الأمر الذي يجب أن يكون شغلنا الشاغل وعلى رأس جدول أعمالنا الوطني هو كيف التصدي لعنف المستوطنين واعتداءاتهم ضد أبناء شعبنا وممتلكاتهم وكيف وقف هذا التمدد الاستيطاني من خلال تجفيف كل الموارد التي ترفده بالقدرة على الاستمرار بدءا بالأيدي العاملة في البناء والمصانع والمزارع ومرورا بمقاطعة منتجاته. وإذا لم يتم ذلك فإن علينا أن نعترف بأننا لم نصل حد النضج الوطني ولا نستحق لا دولة ولا حرية ولا استقلال.