أعلنت منظمة الأغذية والزراعة «الفاو» أنّ أسعار المواد الغذائية بلغت مستويات غير مسبوقة.. الصين تطالب مواطنيها بتخزين الطعام.. الرئيس بايدن يطلب من ميناء لوس أنجلوس العمل بكامل طاقته ليل نهار ودون توقف.. نقص حاد في بعض السلع الأساسية في مختلف دول العالم.. ثلث مصانع الأثاث في أوروبا تتوقف عن الإنتاج بسبب نقص بعض المواد الأولية.. ارتفاع أسعار الغاز والبترول.. أعلنت دبي عن عجزها عن استقبال أيّ بواخر جديدة قبل تصريف بضائع البواخر المتكدسة في مينائها.
فهل نحن على أعتاب أزمة اقتصادية عالمية؟ وهل فعلاً هنالك نقص عالمي في الغذاء أم هي أزمة سلاسل الإمداد والتوريد؟
نشأت سلاسل الإمداد مع بزوغ الحضارات ونشوء التجارة، لكنها كانت أبسط بكثير مما هي عليه الآن، تبدأ من حصد المحاصيل، أو تجميع المنتجات وتعبئتها في سلال، وتحميلها على الجِمال، والسير بها عبر طرق تجارية معروفة.. كان يرافقها أدلاء، وعبيد، وعمّال، وجنود للحراسة.. وكانت أعظم تحدياتها قطّاع الطرق، وتقلبات الطقس، وإطعام الجمال حتى الوصول إلى أسواق مدنهم المقصودة.
اليوم تطورت سلاسل الإمداد، وبلغت درجة عالية من التعقيد: تبدأ من الحقل إلى المصنع (إذا كانت منتجات زراعية)، ومن تجميع المواد الخام حتى تصنيعها (للمنتجات الصناعية) عبر سلسلة تداول معقدة ومتشعبة، سيما أن مدخلات العملية الإنتاجية كثيرة ومتشابكة، ومن مصادر مختلفة، تتداخل فيها عميات الاستيراد والتصدير، لتبدأ بعدها سلسلة أخرى (النقل) والتي تنتهي بالمستهلك.
والخطوات المتبعة لإيصال السلعة من المزرعة أو المصنع إلى المستهلك لا تتضمن فقط وسائل النقل، فهذه مجرد حلقة من السلسلة تسمّى «الخدمات اللوجستية»، بل تبدأ قبل ذلك بتوفير الشروط والمواد الأولية للمنتج (أعلاف، مياه، مواد خام، خدمات بيطرية، مبيدات، أسمدة، قطع وأدوات زراعية، مواد خام، مكائن، وقود، كهرباء، صيانة، مخازن، قطع غيار، مواد تعبئة، صناعات مكملة، تصريف المخلفات، وسائل نقل.. إضافة إلى كل ما يتعلق بالموارد البشرية)، وبعد ذلك تأتي العمليات التجارية بكل ما يلزمها من تحويلات بنكية، وتأمينات، ومراسلات تجارية، وخدمات لوجستية تتعلق بحجز وسائل النقل، وتنسيق مواعيد المطارات والموانئ والشاحنات، وتخزين الحاويات، وحساب فروقات العملات.
وأيّ خلل مهما كان بسيطاً في هذه السلسلة الطويلة والمعقدة يؤثر مباشرة على الخطوات اللاحقة، فيؤخرها، ويربكها.. فمثلاً شهد العالم منذ النصف الثاني من العام 2020 أزمة الرقائق الإلكترونية، ولاحظنا أن هذه الرقائق التي يبلع طول الواحدة منها أقل من 1 سم عطلت مصانع السيارات، بل وأغلب الصناعات الثقيلة، وأثّرت على الاقتصاد العالمي.
وقد باتت سلاسل التوريد من بين أهم مكونات النظام الاقتصادي العالمي، بل وعصبه الأهم؛ نظراً لتأثيرها المباشر على الإنتاج والنقل والاستهلاك.
في حلقة مسجلة على «يوتيوب»، أشار الناشط أحمد سلامة إلى أسباب الأزمة الحالية، وقد لخصها بأزمة تكدس البواخر قبالة الموانئ، خاصة أن 80% من التجارة العالمية تعتمد على النقل البحري (البواخر). وفي التفاصيل:
أثناء أزمة «كورونا» توقفت عجلة الإنتاج، ومع بداية العام 2021 ظهرت اللقاحات وبدأ العالم يتعافى من الجائحة، وعادت عجلة الإنتاج من جديد، لكن المختلف هنا هو تغير سلوك المستهلك، حيث زاد الطلب على السلع بنسبة كبيرة، خاصة الحواسيب والأجهزة الإلكترونية، ومع هذه الزيادة بدأت المصانع تشتغل بأقصى طاقتها، لكن الموانئ لم تكن مجهزة لهذه الزيادة، كما أن عدد الناقلات بقي كما هو دون زيادة، فضلاً عن نقص أعداد العاملين في الموانئ نتيجة جائحة «كورونا»، ما أدى إلى تكدس السفن قبالة الموانئ، وهذا الاختناق يشبه عنق الزجاجة، لأن التنزيل يتم في حلقة ضيقة.. لكن المشكلة لم تنته عند هذا الحد، حيث ظهرت مشكلة الاستلام، وقد برزت مشكلة نقص عدد سائقي الشاحنات لأسباب مختلفة مقارنة بحجم العمل المطلوب، ومقارنة بالعام السابق.. وهذا كله أدى إلى زياد تكلفة النقل والتخزين، وبالتالي ارتفاع الأسعار.
ومن جانب آخر، أدى تأخر وصول البضائع إلى إجبار المصانع على إيقاف خطوط الإنتاج، وإلى تأخر استلام أثمان البضائع، وهذا بدوره سيجبر المصانع على زيادة الأسعار لتعويض نقص الإنتاج، وتقليل الخسائر بل أدى فعلاً إلى إغلاق بعضها. ومن جهة أخرى، فإن تأخر البضائع في الموانئ يتبعه زيادة في أجور الأرضيات، وتكاليف التخزين، حيث زادت مدة وصول البضائع إلى الضعف. ومن المعروف أن أي نقص في أي سلعة سيؤدي إلى احتكارها، أو زيادة سعرها.. وهنا تكتمل حلقات المنتج والناقل والمستورد على نحو أدى إلى ارتفاع الأسعار.
خبراء آخرون رأوا أن سبب الأزمة يعود لطبيعة الاقتصاد العالمي الذي لم يكن جاهزاً للتعامل مع أزمة كهذه، وربما لم يكن يتوقعها، ولا توجد لديه خطة بديلة. فمثلاً الشركات الكبرى كانت تتعامل مع سلسلة التوريد وفق مبدأ دقة المواقيت، أي لكل خطوة ميقات محدد، وهذا يتطلب ضمان توفر نفس الظروف لضمان سير عمليات التوريد حسب البرنامج، وهذه إستراتيجية غير مستعدة للتعامل مع المفاجآت.
وهناك من يضيف أسباباً أخرى، مثل: أزمة الطاقة (الكهرباء) في الصين، وارتفاع أسعار النفط، أو إلى أزمة الرقائق الإلكترونية. وبموازاة أهمية معرفة الأسباب، يتوجب معرفة الحلول.. الخبر السيئ أن الخبراء توقعوا استمرار الأزمة حتى نهاية 2022؛ نظراً لعدم وجود حلول سريعة.. كما أن تأخر وصول البضائع أدى إلى ارتفاع الأسعار، من المتوقع تراجع الإنتاج العالمي، أو حدوث حالة من الركود، وبالتالي التضخم.
هذه أزمة عالمية، ربما يكون سببها طبيعة الاقتصاد العالمي، أو عدم جاهزية الموانئ لتأمين تدفق سلاسل الإمداد بشكل سلس وآمن.. لكن المستهلك لعب دوراً مهماً فيها، وعليه تقع مسؤولية كبيرة في حلها، أي ترشيد الاستهلاك، وعدم اللجوء إلى التخزين، بسبب الهلع؛ لأن هذا السلوك يفاقم من حدة الأزمة، ويجعل حلها مستحيلاً، خاصة أن أغلب البضائع والسلع المتأخرة والتي طرأ عليها نقص هي مواد استهلاكية وثانوية، يمكن الاستغناء عنها، أو تأجيلها بعض الوقت، إضافة إلى مسؤولية التجار والمستوردين الأخلاقية والوطنية، ومسؤولية أجهزة الدول الرقابية في ضبط الأسعار، ومنع تغوّل بعض التجار.