في ذروة الانتفاضة الكبرى عام "1987"، وصعود حالة النهوض الوطني لكل الفلسطينيين في أنحاء المعمورة، وفي غمرة اتّساع المشاركة الشعبية، والتحولات السياسية والاجتماعية، بل والفكرية والثقافية، التي أحدثتها الانتفاضة في مكانة القضية الفلسطينية، ونقل مركز ثقل الحركة الوطنية بالداخل، وما فتحته أيضًا من حالة استقطاب غير مسبوقة داخل المجتمع الاسرائيلي، وارتداداتها على الصعيدين الإقليمي والدولي. وبعد إعلان الأردن عن فك ارتباطه الإداري والقانوني بالضفة الغربية في شهر (آب) عام 1988، وما جرى من محاولات عربية ودولية لاحتواء هذه الثورة الشعبية التي، ولأول مرة، تفتح أفقًا ملموسًا لإمكانية إنهاء الاحتلال والتقدّم نحو الاستقلال الوطني، وما يتطلبه ذلك كله من ضرورة توسيع هذا الأفق، واستثمار تلك التناقضات داخل المجتمع الاسرائيلي. لهذه الأسباب مجتمعة، وربما لغيرها، والتي لا يتسع هذه المقال لتقييمها أو إعادة إخضاعها للتدقيق، ومدى نضج اللحظة السياسية في حينه، جاءت وثيقة إعلان الاستقلال في دورة المجلس الوطني التاسعة عشر "الجزائر- نوڤمبر 1988".
شكّلت وثيقة إعلان الاستقلال المعادل المعنوي للتنازل التاريخي الذي تمخّض عن دورة المجلس الوطني في حينه بإعلان ما عُرف بمبادرة السلام الفلسطينية، والتي بموجبها، ولأول مرة في تاريخ الحركة الوطنية ونكبة فلسطين، وما تلاها من استكمال احتلال ما تبقى منها عام 1967، قبلت منظمة التحرير الفلسطينية بقراريّ مجلس الأمن "338,242"، والذي اعتُبر اعترافًا ضمنيًا بدولة اسرائيل، مؤكدة من خلال وثيقة الاستقلال إرادة الفلسطينين لإنشاء دولتهم على الأرض المحتلة منذ عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. ومرة أخرى، لولا قوة الانتفاضة والإجماع الوطني حول متطلبات مساندتها، لم يكن بمقدور القيادة الفلسطينية تمرير هذا التنازل التاريخي، والذي شكّل مغامرة كبرى وخطأً استراتيجيًا عندما جرى قبول ترسيمه وتوثيقه في رسائل الاعتراف المتبادلة، والتي للأسف لم تأتِ على ذكر دولة فلسطينية ولا الحقوق الوطنية، على الأقل كما عرفتها الشرعية الدولية ذاتها. وكان ذلك بداية التباعد بين وثيقة إعلان الاستقلال وإمكانية تجسيده فعليًا على الأرض.
السؤال الأهم، وبمناسبة مرور 33 عامًا على إعلان هذه الوثيقة، أين نحن من مضمونها السياسي المُتمَّثل بإنهاء الاحتلال ليمارس شعبنا استقلاله وتجسيد سيادته على أرض وطنه؟ وهنا للأسف، فقد بات واضحًا أن تمدد مظاهر الاحتلال الاستيطانية والعسكرية تتعمق أكثر من أي وقت مضى، بل فإن قيادة حكومة الاحتلال تجاهر علنًا برفضها، ليس مجرد إقامة دولة فلسطينية، بل وتُجدد تأكيدها كل صباح على رفض أي حوار سياسي مع القيادة الفلسطينية التي، ولشديد للأسف، تزداد وهنًا وتفكّكًا وعزلة شعبية.
لم تكن الانتفاضة، مجرد حالة كفاحية ضد الاحتلال، بقدر ما يمكن أيضًا اعتبارها ثورة اجتماعية على مخلفات أسباب النكبة والهزيمة، وكل محاولات طمس هوية وتراث ومكانة وتطلعات الشعب الفلسطيني، وجد ذلك تعبيراته المختلفة التي كانت تعكس عمق المشاركة الشعبية والديمقراطية التي ولّدتها الانتفاضة كحالة نهوض وطني عارم، والتي لم يكن بالإمكان إعلان مثل تلك الوثيقة دون ترسيخ أسس ومبادئ هذه التحولات الاجتماعية، والتي في الواقع كانت تعكس أيضًا الطابع التعددي والعلماني للحركة الوطنية ومنظمة التحرير، التي مثّلت حتى ذلك الوقت الائتلاف الجبهوي العريض لكل القوى السياسية والاجتماعية التي تناضل لإنهاء الاحتلال، الأمر الذي مثّلته أيضًا القيادة الوطنية الموحدة، ليس فقط في هيئاتها العليا بقدر ما هو في شبكة وبُنية الانتفاضة، الكفاحية منها والاجتماعية بل والاقتصادية وغيرها، والتي شكّلت بمجملها الركيزة الشعبية لتحدي سلطة الاحتلال والتمرد والعصيان عليها من ناحية، وبناء أنوية سلطة شعبية موازية من ناحية ثانية.
وهنا يبرز السؤال الثاني الأكثر أهمية، وهو إذا كانت وثيقة إعلان الاستقلال قد رسمت الهدف الأساس لإرادة الفلسطينيين في حينه، ووضعت معه الأسس الدستورية لأي دولة وأي مجتمع نريد، والمبادئ الأساسية التي تتناسب مع تضحيات ومنجزات شعبنا، وكذلك مع متطلبات العصر ومنجزات الحضارة الإنسانية التي كان شعبنا، وحتى الغزوة الصهيونية والنكبة، فاعلًا أساسيًا فيها، بما هي مرتكزات التسامح والمساواة والعدالة والانفتاح والكرامة الإنسانية، وكل قيم ومبادئ التعدّدية السياسية والتنوع الفكري والإبداع الثقافي التي تجعل من فلسطين القادمة إضافة نوعية للمنظومة الإنسانية برمتها.
في الحقيقة، ودون أي تجنّي، فإن الحالة الفلسطينية الراهنة، والتي فقدت بوصلتها منذ أن ضحّت بوحدة حركتها الوطنية، وهي بذلك تهدد بتبديد الإنجازات التي حققتها، تشهد تراجعًا واضطرابًا غير مسبوقين في تاريخ الشعب الفلسطيني، ربما أكثر خطورة من مرحلة النكبة، وهي حالة تشهد انقلابًا فعليًا على مضامين وثيقة إعلان الاستقلال في مختلف نواحي حياة الناس، وهي في الواقع تعيش حالة من الانهيار، والتي دون الاعتراف بها وبالأسباب التي أدّت إليها، لوقف ارتداداتها وتداعياتها، فإن التاريخ سوف يسجل للمهيمنين على المشهد الراهن أنهم كانوا بوعي أو بدونه، أدوات ساهمت في وأْد هدف الاستقلال، وليسوا حُرَّاسه كما توخت الانتفاضة الكبرى ومبادئ وثيقة الاستقلال التي أنتجتها.
يقيني أن دروس تلك الانتفاضة العظيمة ستظلّ ماثلةً أمام كل الوطنيين، ولن يمرّ وقت طويل حتى ينهض أحفاد من صنعوها لتصويب التاريخ، وصوْن القيم والمبادئ التي رسّختها في وجدان الشعب، وستظل قضية العدالة والحق في تقرير المصير هي ركيزة وحدة الشعب ومواصلة نضالاته، ولتستعيد المرأة الفلسطينية مرةً أخرى موقعها في مقدمة نضال شعبنا، ليس فقط حارسة نار كفاحه التي لن تنطفئ، بل، وحامية حلمه في الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.