نظام جديد ونتائج كارثية..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

بقلم: حسن خضر

قلنا إن النظام الإقليمي، على طريقة كيسنجر، عمّر قرابة ثلاثة عقود، وأنه لم يكن بلا عثرات، أو انعطافات حادة، وأن نتيجته كانت انهيار المراكز الحضرية والحضارية للعالم العربي، وصعود الهوامش الصحراوية.
واليوم، يمكن القول، بخطوط عامة وعريضة: إن ثورات الربيع العربي قد وضعت حداً للنظام المذكور، ولكن الثورة المضادة، والملاحقة المحمومة لفكرة الثورة بالانقلابات العسكرية، والرشاوى المالية، والأيديولوجيا المحافظة، والحرب الأهلية، والابتزاز وحتى الإرهاب (إذا، وكلما، استدعى الأمر)، هي العمليات التي ولد في رحمها النظام الجديد.
 لم تتضح ملامح هذا النظام، بعد، وإذا كنّا نعرف، على وجه التقريب، متى بدأ، فإننا لا نستطيع التكهّن بكيف ولا متى سينتهي، وهل يطول أم يقصر؟ فهذه كلها أسئلة مفتوحة في أفق غامض يغرق في ضباب الحرب (كل وصف للثورة المضادة بغير صفة "الحرب الوحشية"، لا يعوّل عليه).
بيد أن هذا كله لا يحول دون رصد سمات معينة، بخطوط عامة وعريضة، للنظام الجديد استناداً إلى ما تجلى من احتدام للصراع (الحرب) بين ثورات الربيع والثورة المضادة، في العالم العربي، على مدار عقد مضى، وما عرفت المنطقة من تحوّلات وتحالفات وصراعات بينية وإقليمية ودولية، على امتداد العقد نفسه.
أبرز السمات، على الأرجح، هي انتقال مركز الثقل من المراكز الحضرية والحضارية، للعالم العربي، إلى ممالك النفط الصحراوية. وقبل كل خلاصة محتملة، في هذا الشأن، ثمة ما يبرر القول إن عملية كهذه، وبما لها من دلالات بعيدة المدى، قد أدت، وتؤدي إلى هزات ارتدادية، وتداعيات ونتائج سياسية وعسكرية وأيديولوجية، غير مضمونة النتائج، ومحفوفة بالمخاطر، في كل الأحوال، بالنسبة لهؤلاء.
نجم الصعود المالي والعمراني لتلك المناطق، على خلفية تشكيل وهندسة النظام الإقليمي، كجزء من عملية إعادة تدوير عائدات النفط، بما يعني دمج العملية نفسها في الدورة الاقتصادية للبلدان الصناعية في الغرب. وكان هذا مفيداً في الحفاظ على ثروة النفط في الغرب نفسه، وفي بناء حائط الصد الأيديولوجي في وجه "الشيوعية" باستمارات هائلة في البنية التحتية، واستيراد عمالة أجنبية، وتوفير خدمات شبه مجانية للمواطنين الأصليين.
والمفارقة، في هذا الشأن، وعلى الرغم من تجليات صريحة ومضمرة لجنون العظمة من حين إلى آخر، إلا أن ترجمة الانتقال، في مركز الثقل، إلى ممارسة فعلية لدور القوّة الإقليمية، لم تنجم عن خيارات ذاتية، بل نشأت، في المقام الأوّل، تلبية لمطالب أميركية صريحة وفصيحة تدعو الحلفاء العرب في الشرق الأوسط أن "يقلعوا أشواكهم بأيديهم"، خاصة بعد إفلاس مشروع الحرب على الإرهاب، وصدمة الفشل في أفغانستان والعراق، وتتويج هذا كله بالاتفاق النووي مع إيران.
وما له دلالة: إمكانية العثور على تجليات مبكّرة لعدم رغبة الأميركيين في الجلوس في المقعد الأمامي، والاكتفاء "بالقيادة من الخلف"، كما جاء في عبارة لباراك أوباما (في زمن الحرب الجوية على ليبيا القذافي) مع ولادة ما وصفناه بالنظام الإقليمي الجديد، الذي لم تتضح ملامحه بعد. وكأنها تُدشّن النظام الجديد.
بمعنى أكثر مباشرة: دُفعت الأطراف التي وجدت نفسها، وقد أصبحت مركزاً للثقل، رغم إرادتها، وبعد عقود من العمل من وراء الكواليس، إلى اللعب في وضح النهار، وعلى المكشوف. ولعل في ما نشب وينشب بينها من صراعات، من حين إلى آخر، ما يدل على حقيقة أن التنافس على المركز القيادي الأوّل لم يحسم بعد، وعلى وجود خلاف واختلاف بشأن السياسات والطموحات والأوهام.
وإذا كان ثمة من خلاصة عامة لما تجلى من ترجمة لانتقال مركز الثقل، وما يستدعي من سياسات عملية في الإقليم، على مدار عقد مضى، فلنقل إن سلسلة من الحروب الأهلية السورية، والليبية، واليمنية، التي نشبت في أعقاب الموجة الأولى للربيع العربي، تعود في جانب منها إلى ما وسم تلك السياسات والطموحات والأوهام من تخبّط وتنافس أطراف مختلفة، بل وحتى نقل الصراعات البينية إلى أرض الآخرين.
وهذا، أيضاً، لا يختزل الصورة كاملة، إذ يمكن العثور في كل مكان شهد اندلاع الموجتين الأولى والثانية للربيع العربي وما نجم عنهما من ردود أفعال، على علامات وتداعيات تعيد التذكير بتلك السياسات بوصفها وثيقة الصلة بالثورة المضادة.
وتجدر الملاحظة أن الثورة المضادة، كما تجلت بعد انتقال مركز الثقل، وعلى مدار عقد من الزمن، لن تكون مفهومة بالقدر الكافي دون التذكير بخصوصيتها الطائفية. فما بدأ في زمن بناء النظام الإقليمي، على الطريقة الكيسنجرية، كاستثمار في، ورهان على، سياسات الهوية الدينية، وافتعل صراعاً بين الهويتين الدينية والقومية، قد تدهور في زمن ولادة النظام الجديد، بحراب الثورة المضادة، وعلى يد ساستها، ورعاتها، وجنرالاتها، وميليشياتها، وتلفزيوناتها، ودعاتها، إلى صراع بين كيانين وهميين هما السنّة والشيعة.
إذاً، لدينا العدسات التالية لرصد ملامح نظام قيد التشكيل:
انتقال مركز الثقل من الحواضر إلى الهوامش أولاً. وثانياً، لم ينجم اللعب، على المكشوف، لتشكيل النظام الجديد عن رغبة ذاتية، بل نجم عن ضغوط أميركية. وثالثاً، ثمة ما يدل، في ما تجلى من سياسات وممارسات على مدار عقد مضى (شهد حروباً أهلية، وانقلابات، وصراعات بينية وإقليمية، وتدخلات خارجية) على صراع بين أطراف المركز الجديد، وعلى سوء فهم عميق من جانبهم للقدرات الذاتية، والكفاءة، والعواقب، والتداعيات بعيدة المدى لما تحقق، حتى الآن، من نتائج كارثية. فاصل ونواصل.