الهدنة التي يجري الحديث عنها، والحديث يدور عن خمس سنوات (تحت الحساب طبعاً)، والتي كان، وربما ما زال يعترض طريقها بعض التفاصيل، هي من حيث الجوهر، وليس من حيث الشكل والمظهر هدنة مفخخة، وقابلة للانفجار في وجوهنا جميعاً، وفي وجه أصحابها قبل أي طرف آخر، سواء تعلق الأمر بحركة حماس، أو بإسرائيل أو حتى بالشقيقة مصر.
هذا هو الاحتمال الأرجح.
السبب في ذلك يعود إلى أن شروطها السياسية، والأصح القول: الاشتراطات السياسية الإسرائيلية لهدنة كهذه، بصرف النظر عن "أسلوب التسويق الإعلامي لها"، ستكون ولا بد أن تكون "أوضح" من أن يموهها أي تسويق، ولا بد أنها ستتضمن (سراً أو علناً) ما يؤسس لمسار سياسي يكرس الانقسام، ويسير قدماً نحو الانفصال، وهو الأمر المرفوض وطنيا من قبل الغالبية الساحقة من القوى السياسية الفلسطينية في القطاع وفي الضفة، تماما كما سيكون مرفوضا من قبل كل تجمعات شعبنا في الداخل والخارج وفي كل مكان.
تأمل إسرائيل، والحكومة الحالية على وجه التحديد والخصوص، ومن خلال الإصرار على وضوح المسار السياسي لهذه الهدنة، أن يؤدي "توقيعها" إلى صراع فلسطيني داخلي زيادة على "الصراع" القائم من دونها، وهي تراهن على أن يشمل هذا الصراع بداية احتراب داخلي في القطاع، حيث تقدر الأوساط الإسرائيلية أن "الجهاد الإسلامي"، وكذلك فصائل اليسار الفلسطيني المنضوية في منظمة التحرير الفلسطينية ستتصدى لهدنة كهذه، ما قد يؤدي إلى أن تسير الأمور نحو مثل هذا الاحتراب، وتراهن إسرائيل أيضاً على أن الذهاب قدماً باتجاه هذا المسار سيعمق من الخلافات القائمة بين "فتح" و"حماس" في القطاع، وفي كل مكان إضافة إلى تعميق هذه الاختلافات مع القيادة الشرعية الفلسطينية، وذلك بالنظر إلى أن هذه القيادة ستقرأ الهدنة من زاوية خطر الانفصال، وخطر مشاريع البدائل، وأخطار أخرى كثيرة تتعلق بأخطار اللحظة السياسية، والأخطار المصيرية من كل الزوايا، وفي مختلف الاتجاهات.
والسبب الأهم في رؤية إسرائيل "لإلزامية" أن يكون هناك مثل هذا المسار، هو أنها حتى لو عقدت اتفاقية لتبادل الأسرى فقط، أي دون "المسار السياسي"، ودون هدنة متفق عليها، أو دون "ضمانات" كاملة لإسرائيل بأن هذا المسار هو الوجهة والتوجه، فإنها (أي إسرائيل) لن تتمكن من تسويق هذه الهدنة للمجتمع الإسرائيلي، ناهيكم عن صعوبة تماسك الائتلاف الحاكم فيها في ظل ما نعرفه من ضعف وهشاشة، ومن صعوبات للتعايش ما بين مكونات هذا الائتلاف.
وقد تهدف إسرائيل من خلال الإسراع "بالتوقيع" على هذه الهدنة إلى الوقيعة بين مصر والقيادة الشرعية، وذلك بالإيحاء بأن مصر باتت "تفضل" الهدنة على غيرها، أو أنها، أي مصر، قد ترى في هذه الهدنة أولوية خاصة على باقي الاعتبارات الأخرى.
لكن المؤكد هنا أن إسرائيل، والتي تراقب بحذر شديد مسار الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، ربما تهدف أيضاً إلى أن تعمل كل وقيعة على حدة، ولكنها مجتمعة نحو خلط الأوراق كلها دفعة واحدة، بهدف "عرقلة" الاتفاق النووي المرتقب.
كيف؟
إذا تحقق لإسرائيل ما تخطط له من صراع سياسي مفتوح، وقد يتطور نحو أشكالٍ عنيفة في القطاع وفي الضفة تكون قد قطعت الطريق على توجه الولايات المتحدة نحو إقامة حكومة وحدة وطنية، وستتهم إيران في هذه الحالة "بإفشال" هذا التوجه، وقد يتطور الأمر إلى "سقوط" الهدنة القائمة كأمر واقع، ودون اتفاق رسمي حتى الآن، وصولا إلى جولة، أو جولات عسكرية يمكن أن تتحول إلى حرب جديدة على غرار الحروب التي شنتها على القطاع، وبحيث تأمل إسرائيل من خلالها ـ أي من خلال حرب كهذه ـ إلى استكمال لعبة خلط الأوراق.
لا أظنّ أن كل أقطاب الائتلاف الحاكم في إسرائيل على "قلب رجل واحد هنا"، ولا يمكن أن يكونوا كذلك، لأن "لعبة" خلط الأوراق بما يصل إلى محاولات التعطيل على الرئيس بايدن ليست موضع توافق محتمل.
ما يرشح في الواقع من أخبار هو أن قطر، وقد وصلت علاقاتها مع الولايات المتحدة إلى مستويات غير مسبوقة، ومن توافقات بين الطرفين باتت معلنة وصريحة، وأصبحت قطر ترعى مصالح الدولة العظمى في أفغانستان .. معنية "بإقناع" الولايات المتحدة "بقبول" حماس في لعبة "التسوية" الشاملة في المنطقة، وليس على مستوى بقاء حركة حماس متحكمة في القطاع، ومنقسمة عن الحالة الفلسطينية ومنفصلة عنها.
كنت قد أشرت إلى هذا الأمر تحديداً في مقال حول أفغانستان، وكان المقال بعنوان (أفغانستان .. لم يتبق سوى الاستلام والتسليم) بأن قطر ستعمل على تسويق حركة حماس للإدارة الأميركية.
أشارت صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية إلى هذا الأمر، أول من أمس، 16/11/2021 إلى أن سيناريو "طالبان" قد يطبق على الضفة الغربية مع "حماس" برعاية قطرية.
من هذه الزاوية فإن الهدنة التي يتم الحديث عنها قد تكون الفخ الأكبر الذي يتم "نصبه" للشعب الفلسطيني، والذي يمكن فعلاً وليس قولاً فقط أن يدمر الواقع الفلسطيني أكثر مما هو مدمر حتى الآن. وأغلب الظن أيضاً انه إذا وقعنا، أو أوقعنا في فخ الاحتراب السياسي الجديد، فسنكون أول الخاسرين، وإذا ما تم جرنا إلى اقتتال جديد في القطاع وفي الضفة أيضاً فنحن سنكون اكبر الخاسرين وستكون إسرائيل قد حققت استراتيجيتها للإيقاع بين الفلسطينيين، على كل مستوى وصعيد.
وأما إذا لم نتدارك الأمور قبل فوات الأوان، وسارت أمور الهدنة وفق التصورات القطرية والتركية الدفينة، ولم تتنبه مصر لكل هذه الأخطار، فستكون هذه الهدنة بمثابة الكارثة الماحقة.
ولأجل ألا تكون هذه الهدنة وبالاً علينا، ولكي لا تصور لشعبنا وكأنها "انتصار" جديد في سلسلة "الانتصارات" التي بتنا نشهد فصولها المأساوية، ولأجل ألا تكون أي هدنة من أي نوع كان بمثابة "مصيدة للمغفّلين" فإن المطلوب هو المسارعة إلى تفويت الفرصة على كل من "ينصب" لنا هذه الأفخاخ وهذه المصائد.
والحل مهما كان صعبا أو مهما بدا وكأنه بعيدا الآن، هو أن نبادر إلى توافق وطني بحضور الجميع، بحيث إن كل هدنة تكون حصيلة توافق وطني شامل، وبإجماع وطني كامل، حتى ولو لم نتمكن من الاتفاق والتوافق على استكمال ملفات إنهاء الانقسام أو تشكيل حكومة وحدة وطنية أو غيرها من الملفات العالقة.
هذه الهدنة دون التوافق الوطني تعني أننا نحن من نستحق أن نوصف بالمغفّلين، ونحن من نتحمل كل الانفجارات التي ستؤدي إليها السياسات الإسرائيلية المفخخة.