خلصنا إلى وجود نظام قيد التشكيل في الإقليم (في ظل قدر هائل من التخبّط، والفوضى، أيضاً) وإلى ما أسفر عنه من نتائج كارثية حتى الآن. ثمةَ ما لا يُحصى من التداعيات، والزوايا المُعتمة، التي تستحق المزيد من الضوء، بطبيعة الحال. لذا، نكتفي اليوم بالكلام عن إسرائيل، من زاوية علاقتها بهويتها، بعد "سلام إبراهيم، ونظرتها إلى المنطقة، وموقفها من الفلسطينيين.
نقطة الانطلاق، في هذا الشأن، أن ما كان قبل "سلام إبراهيم" ليس كما بعده. "فالسلام الإبراهيمي" يكرّس إسرائيل قوّة إقليمية تحظى بالاعتراف (التحاق آخرين، خاصة بقية أعضاء "مجلس التعاون الخليجي"، علانية، بالركب مسألة وقت لا أكثر). وهذا تحوّل تاريخي، وله تداعيات استراتيجية بعيدة المدى.
وعلى خلفية كهذه، ثمة أسئلة وتساؤلات يصعب تفاديها: هل يملك معسكر "السلام الإبراهيمي"، بطرفيه العربي من ناحية، والإسرائيلي من ناحية ثانية، تصوّرات متبادلة، ويمكن جسر الهوّة بينها، عن الأنا والآخر، وعن نصيب كل طرف في نهاية الصفقة؟ وهل يمثل "الميراث الإبراهيمي" المُتوهّم أرضية صلبة لسلام يدعي تمثيله والنطق باسمه؟
لن تجدَ في الخطاب السائد، لدى الطرفين، إجاباتٍ تفسّر ما تحقق، وتتجاوز الإطار الاحتفالي والدعائي العام. فما يطغي عليه يتمثل في عبارات عامة وملتبسة من نوع: كيف "تغيرّ العالم، وتغيّرت المنطقة"، وضرورة وأهمية التطلّع إلى الأمام للاستثمار في العلم والتكنولوجيا (وحتى في لقاح كورونا)، وبناء غد أفضل، ناهيك عن ذم العنف، والتغني بفضائل ومدائح "السلام" الذي سيعود بالخير على المنطقة، والعالم.
وهذا كله كلام فارغ. فانسحاب الأميركيين (بصرف النظر عن الأسباب) يستدعي وجود قوّة تملأ الفراغ (إسرائيل، وشركاء محليين على مقاعد أصغر حول الطاولة)، ومطالبة الأميركيين للعرب "ليقلعوا أشواكهم بأيديهم" تسوّغ لبعض الهوامش، خاصة بعد انهيار الحواضر العربية، تجريب وممارسة دور اللاعب الإقليمي. ومع ذلك، يدرك هؤلاء، قبل غيرهم، الحاجة للاحتماء بقوّة إقليمية أكبر في وجه القوتين التركية والإيرانية.
هذا هو الواقع، إذاً. وبناء عليه فلنفكِّر في مسألة التصوّرات بطريقة أكثر جدية. فلن تكفَّ إسرائيل، في وقت قريب، عن النظر إلى نفسها كدولة أوروبية في آسيا الغربية. ورغم أن الأغلبية الأشكنازية (القادمة من روسيا وأوروبا الشرقية، في المقام الأوّل) التي أنشأت الدولة، أصبحت أقلية منذ وقت بعيد، إلا أن الهوية الأوروبية الوهمية والمتوهَّمة للدولة، وسياستها الرسمية، لم تجابه تحدياً يؤدي إلى تقويضها، أو زعزعة مركزيتها، حتى الآن.
تمثل المركزية الأوروبية (التفوّق على غير الأوروبيين، إذا شئنا استخدام تعبير غير "العنصرية"، مثلاً) عصب الهوية الوهمية والمتوهّمة، على الرغم مما في الأمر من تناقض فادح وفاضح. فالصهيونية نظرت إلى اليهود، كما فعل المعادون للسامية، كغرباء في أوروبا، بالمعنى الإثني والاجتماعي والثقافي، وقد رأى البعض في الهجرة إلى فلسطين لا عودة إلى التاريخ وحسب، بل وعودة إلى الشرق، أيضاً.
والواقع، وهذه مفارقة إضافية، أن الجوهر الكولونيالي، والوظيفي في آن، لمشروع "العودة" جعل من هوية المركزية الأوروبية شرطاً لنجاح المشروع، وجعل من النسب الهوياتي الأوروبي، نفسه، مدخلاً لضرب واصطياد ثلاثة عصافير بحجر واحد: تفسير الصراع مع العرب والفلسطينيين، والديمقراطية الإسرائيلية، والتحالف مع الغرب:
يُعبّر رفض العرب والفلسطينيين للدولة الإسرائيلية عن عداء عنصري وديني للسامية والغرب في آن أولاً، أما الديمقراطية الإسرائيلية فتجسّد القيم الغربية ثانياً، بينما يعبّر التحالف، والتماهي، مع الغرب عن الانتماء إلى ثقافة غربية مشتركة، ثالثاً. والواقع أن ضرب واصطياد العصفورين الثاني والثالث سبق قيام الدولة نفسها، وكان جزءاً من مرافعة تبرير وجودها ووظيفتها (الموقع المتقدّم في آسيا لحماية الحضارة الأوروبية).
ولنلاحظ أن لا كلام هنا (في زمن مرافعة وخلطة العصافير الثلاثة) عن حركات التحرر القومي، وموجة نزع الاستعمار، ومكافحة الكولونيالية في القرن العشرين. تماماً، كما لا يوجد كلام هنا (في زمن خلطة إبراهيم وسلامِه) عن الاحتلال، ومكافحة الكولونيالية والحق في تقرير المصير (أو حتى الشرعية الدولية، وإدانة نظام الأبارتهايد، إذا شئت) في معرض تسويغ وتسويق "سلام إبراهيم".
على أي حال، يضع "سلام إبراهيم" كل ما نجم عن ضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد، (وبدا ناجحاً في وقت مضى) في مأزق لا يُستهان به. فإذا وضعنا الفلسطينيين جانباً (سنأتي على ذكرهم في وقت لاحق):
كيف يستقيم الكلام عن عداء العرب للسامية والغرب بعد ما تجلى من حرارة العناق في "سلام إبراهيم"؟ وكيف يستقيم الكلام عن القيم الغربية في ظل التحالف مع أكثر أنظمة الشرقيين عداءً لتلك القيم؟ وكيف يستقيم التماهي مع، والانتماء إلى، ثقافة غربية مشتركة في ظل نظام للأبارتهايد أدانت القيم الغربية نفسها نظاماً من فصيلته في جنوب أفريقيا؟
والواقع أن أهم ما نجم من مرافعات، عن الخلطة الأيديولوجية للعصافير الثلاثة، تمثل في فرضية: أن تستُّر الحكّام العرب، الذين أنشؤوا أنظمة دكتاتورية، بالمسألة الفلسطينية، وإشهار العداء لإسرائيل، مصدره تبرير حرمان شعوبهم من الديمقراطية، وتكريس وجودهم في سدة الحكم.
بدت هذه المرافعة، لوهلة من الوقت، مُقنعة في الغرب. فأنظمة الحواضر العربية لم تكن ديمقراطية. لذا، فكّر البعض بطريقة منطقية: السلام ممكن، إذاً، إذا أصبحت الديمقراطية ممكنة. والمشكلة، مع "السلام الإبراهيمي" أن أطرافه من العرب ليسوا معادين للديمقراطية وحسب، بل وأصبحوا، بعد الربيع العربي، على رأس الثورة المضادة، وأن الشبح الذي يطاردونه، هم وإسرائيل، هو الديمقراطية. فما هذه الخلطة العجيبة؟ فاصل ونواصل.