يسيطر على المشهد الحالي في الشرق الأوسط صورة لأجواء احتفالية عنوانها الوفاق الاقليمي، حيث الزيارات والمصافحات التاريخية والتصريحات الايجابية بين دول إقليمية فاعلة، التنافس على النفوذ والخصومة كان سمة السنوات الماضية بينهم. مسارات التهدئة الحالية متعددة ومتشابكة، وتصاحبها دبلوماسية نشطة لكل دولة على حدة ، روّادها البراجماتيون: الامارات والسعودية وتركيا وايران، وبالطبع مصر بنهج أكثر بطئا. والحقيقة أن هذه التحولات ليست مفاجئة، بل سبقها جهود صامتة ومؤشرات لافته وجولات محادثات استكشافية منذ شهور طويلة. بدأت بعودة العلاقات بين قطر ومحيطها الخليجي من ناحية، وقطر ومصر من ناحية أخرى، ثم انسحاب الامارات من حرب اليمن رافعة شعار “الانتقال من استراتيجية القوة العسكرية الى خطة السلام أولا”. أعقبه تطور هام في تحسن العلاقات الاماراتية ــــ السورية دبلوماسيًّا وثقافيًّا تمثّل في مكالمة هاتفية بين زعيمي البلدين، تبعتها زيارة ودّية لوزير الخارجية الاماراتي الى الرئيس السوري. جدير بالذكر أنّ العلاقات الاماراتية/ السورية لا يمكن أن تأتي بمعزل عن ايران ـــــــ حديقة الامارات الخلفية ــــ التي تربطها بحكم الواقع الجيوسياسي مصالح مشتركة مع الجار الايراني، برزت أهم انعكاسات التهدئة في افتتاح طهران طريق تجاري يربط بين الامارات وتركيا عبر ايران . وكيف لا، فالاتفاقات العشر التي وقعت قبل ايام بمليارات الدولارت إبان زيارة ولي عهد ابو ظبي محمد بن زايد الى تركيا، توحي بأن منسوب العلاقات القادمة يحتاج الى طرق مرور جديدة.
بالتوازي وبديلاً عن التصعيد المتوقع وبعد القطيعة وحروب الوكالة والهجوم على أرامكو، فإن قطبي التنافر في المنطقة: السعودية وايران، شرعا بجولات من الحوارات الاستكشافية في العراق مع هدوء في التصريحات، وإن كان ليس بسهولة الصعيد الاماراتي إلا أنه في أسوأ الاحوال سينتج عنه هدنة دبلوماسية.
تركيا من جهتها، حاضرة وبقوة في مشهد التغيير الجذري في التوجهات والسياسات نحو الوفاق مع مصر والسعودية والامارات. مع ملاحظة سرعة تطور الوفاق التركي الاماراتي والسعودي قياساً بمصر، ويعزى إلى حساسية القضايا العالقة بين الطرفين بالنسبة للأمن القومي لكليهما: مثل التدخل التركي في ليبيا على الحدود الغربية للدولة المصرية، وملف الاخوان المسلمين، وترسيم مصر الحدود البحرية مع قبرص. تركيا لم تنس اسرائيل في اطار اعادة تشكيل علاقاتها الجديدة، فبوادر حسن النية وصل صداها الى الطرف الاسرائيلي مع اطلاق سراح زوجين اسرائيليين لتصويرهما احد القصور الرئاسية التركية، تبعه اتصال هاتفي بين أردوغان ونفتالي بينيت.
صحيح أن جميع هذه التغيرات التي عنوانها الوفاق هدفها تعزيز الاستقرار الاقليمي، ومنبعها مصالح كل دولة حسب أوضاعها الداخلية وأمنها القومي، لكن هناك أسباب أخرى وجيهة دعت الى مواجهة خسارة الخصام الطويل، يذكر من أهمها: الاقتصاد ثم الاقتصاد ثم الاقتصاد. فالرؤى المشتركة لنظام اقليمي جديد يسيطر عليها الطابع الاقتصادي وليس السياسي. هذه الرؤى الجديدة تتطلب هدوءاً نسبيًّا وبيئة سياسية مستقرة، وبنية تحتية ممتدة بين الدول للاستثمار، خاصة أن التعافي الانعزالي من اقتصادات ما بعد كورونا لا يفيد، واستيراتيجية مواءمة المصالح الاقتصادية مع السياسية لابد منها. كما أن التحديات الجديدة غير التقليدية التي تواجه الجميع في الشرق الأوسط مدمرة ولا يمكن مواجهتها بسلوك أحادي. فالتغير المناخي السريع وموجات الحرارة العالية والزيادة السكانية والقدرات المائية المحدودة والتي تصل الى حد الجفاف، تتطلب مبادرات جماعية أساسها التعاون وليس التنافس والنزاع. ولا شك أن الوفاق الاقليمي يوفر مساحة للمصالح المشتركة، ووسيلة للحوارات الاستراتيجية لمواجهة التحديات، وبناء الثقة بين الأطراف المتناحرة سابقا لإمكانية إدارة الخلافات السياسية.
الفترة القادمة ستكون اختباراً لجدّية الوفاق