عبادة المخابرات

حجم الخط

بقلم د. شريف سلامة

 

دائما ما تتردد أقوال وتنتشر أخبار عن وجود قوى عظمى خفية تسيطر على العالم وتتحكم في كل ما يدور حولنا من أحداث، فمثلا عندما يحدث أمر في أي منطقة؛ تنتشر فجأة أخبار ومعلومات تبدو بريئة ولكنها تهدف إلى توجيه من يطلع عليها إلى أمر أخر، ولعلنا لاحظنا في بداية ظهور فيروس “كورونا” أن هناك أخباراً انتتشرت بسرعة البرق – من جهات وأشخاص ومصادر عدة – تفيد بأن الفيروس مُصنع، وأن هناك قوى خفية تريد أن تقضي على نسبة كبيرة من البشرية، وهكذا، وذلك لتوجيه الرأي العام إلى أن كل ما يحدث هو أمر مدروس وتحت سيطرة تلك القوى الخفية المهيمنة على العالم.

ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل أن المتتبع للأخبار والمعلومات المنتشرة حولنا – والتي زادت وتيرة انتشارها بشكل هائل بعد “تسهيل” الوصول إلى الانترنت في كافة أنحاء العالم -، يجد أنها لم تهدف فقط إلى توجيه الرأي العام نحو أمور معينة، بل أنها عمدت أيضا إلى “تشويه” حقيقة الماضي، و”التشويش” على الحاضر، و”رسم” المستقبل بالصورة التي يريدها من يقف ورا انتشار تلك الأخبار والمعلومات.

فهل حقا هناك قوى عظمى تهيمن على كل ما يدور حولنا، أم أن الأمر لا يتعدى مجرد كونه أخبارا وحكايات غير حقيقية، يحاول البعض دسها من أجل تحقيق أهداف معينة، أو تشويه وطمس الحقيقة؟

وقبل محاولة الرد على هذا السؤال، أو بيان الغرض من طرحه، أريد أن ألقي الضوء – في ايجاز – على أمر لعله يفيد في معرفة الرد المناسب:

في أوائل السبعينات من القرن الماضي، تناقلت الصحف الأمريكية بعض المعلومات المتعلقة بأنشطة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وضلوعها في ارتكاب العديد من جرائم اغتيال ومحاولات اغتيال رؤساء وزعماء دول أجنبية، ومن ضمن ذلك ما نشرته صحيفة “واشنطن بوست” عن تورط وكالة المخابرات في محاولة اغتيال الرئيس الأسبق لدولة كوبا (فيدل كاسترو).

وظل الأمر مقلقا للرأي العام الأمريكي، إلى أن انتشرت روايات صحفية أخرى عن تورط وكالة المخابرات المركزية في فضيحة “ووترغيت” الشهيرة، والتي انتهت إلى تقديم الرئيس الأمريكي “ريتشارد نيكسون” استقالته بعد أن توجهت إليه أصابع الاتهام، وهو الأمر الذي دفع “جيمس شليزنجر” مدير الوكالة عقب توليه منصبه في فبراير من العام 1973، إلى اصدار أمر إلى كبار الضباط بإعداد تقرير عن نشاطات وكالة المخابرات خلال الفترة من العام 1959 حتى العام 1973.

وبعد بضعة أشهر، تم إعداد التقرير المطلوب، وأطلق على التقرير اسم “Family Jewels”، والذي كان في شكل كتاب وبلغ عدد صفحاته (693) ورقة، وتم تقديمه إلى “وليام كولبي” مدير الوكالة الجديد، والذي خلف “جيمس شليزنجر” بعد أن ترك منصبه بعد مرور خمسة أشهر فقط من تعيينه مدير للوكالة ليصبح وزيرا للدفاع، وتناول التقرير (18) موضوعا تضمنت العديد من المعلومات الخطيرة التي أكدت بالفعل الانتهاكات والجرائم التي قامت بها وكالة المخابرات الأمريكية خلال السنوات الخمس عشرة السابقة على إعداد التقرير.

وفي ظل الزخم واللغط الذي أنتاب الرأي العام الأمريكي خلال تلك الفترة، صدر كتاب بعنوان “وكالة المخابرات المركزية وعبادة المخابرت”، والذي كان أكثر الكتب مبيعاً –في حينه- ونال استحسانًا كبيرًا وانتشارًا واسعًا، وترجع شهرة الكتاب إلى أمرين، أولاهما أن صاحب فكرة تأليفه هو “جون ماركس”، والذي بدأ حياته العملية موظفا في وزارة الخارجية الأمريكية، ثم عمل في سكرتارية “اللجنة الخاصة للتنسيق المشترك” بين وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية، ثم تم تكليفه بمهام استخباراتية في فيتنام، وبعد أن استقال اتفق مع زميل له كان يعمل أيضا في الوكالة يدعى “فيكتور مارشيتي” على فضح أسرار المخابرات الأمريكية، فألفا الكتاب وضمناه العديد من الأسرار الخطيرة المتعلقة بنشاط المخابرات.

والأمر الثاني الذي كان سببا في شهرة كتاب “عبادة المخابرات” إنه كان أول كتاب يخضع لرقابة محكمة فيدرالية، إذ قامت وكالة المخابرات الأمريكية برفع دعوى قضائية ضد مؤلفي الكتاب، ذكرت خلالها أن المؤلفين قد أفشيا خلال كتابهما العديد من الأسرار التي قد تضر بأمن الولايات المتحدة، وأنهما بذلك قد أخلا بتعهد السرية الذي وقعه كل منهما إبان فترة عمله، وطلبت الوكالة حذف (339) فقرة من الكتاب، وبعد جدل قانوني وقضائي، أمرت المحكمة بحذف (168) فقرة من الكتاب، وقررا المؤلفان أن يتركا مواضع الفقرات المقضي بحذفها بيضاء، في سابقة قد تكون الأولى من نوعها.

وعقب ذلك، نشرت جريدة “نيويورك تايمز” مقالاً مطولاً بعنوان “Family Jewels” تضمن أجزاءً من التقرير الذي أعده بعض من ضباط الوكالة تنفيذا لأمر “جيمس شليزنجر”، السابق الإشارة إليه، وتناول المقال بعض الجرائم التي اشتركت فيها الوكالة، وبعض المحاولات السرية لتخريب حكومات أجنبية، كما تطرق أيضا إلى بيان بعض جهود الوكالة في جمع المعلومات حول الأنشطة السياسية لمواطني الولايات المتحدة.

وإزاء كل تلك الظروف – وغيرها مما لا يتسع المجال لعرضه – قرر مجلس الشيوخ الأمريكي إنشاء لجنة تحقيق خاصة تألفت من (11) عضواً، أشرف عليها السيناتور “فرانك تشرش”، تكون مهمتها التحقيق في نشاطات وجرائم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

وبعد حوالي خمسة عشر شهرا، نُشر التقرير النهائي للجنة “تشرش”، وكان عبارة عن “ستة” كتب، تضمنت الكثير والكثير من الجرائم والانتهاكات والاساليب الملتوية التي قامت بها وكالة المخابرات الأمريكية على مدار السنوات محل الدراسة، ومن بين تلك الجرائم ضلوع الوكالة في اغتيال الرئيس “سلفادور أليندي” رئيس جمهورية تشيلي في العام1973 ، وكذلك اغتيال “باتريس لومومبا” أول رئيس وزراء منتخب في تاريخ الكونغو –زائير سابقا-، وغيرها من الاغتيالات الأخرى لزعماء ورؤساء أجانب لا يكفي المقال لسردهم.

ولم تقف جرائم وكالة المخابرات الأمريكية عند حد الاغتيالات المادية فحسب، بل عمدت الوكالة من خلال الأدوات والأساليب التي كانت تمتلكها أو تمتلك التحكم فيها، إلى محاولة الاغتيال المعنوي للعديد من الشخصيات السياسية، وذلك بتشويه سيرتهم وترويج إشاعات وأخبار زائفة عنهم، إلى غير ذلك من الأساليب القذرة في التعامل مع من ترى الوكالة أنه خصم للولايات المتحدة.

ومن الأمور الهامة التي تناولها تقرير لجنة “تشرش”؛ ما سرده عند عرض الأساليب التي اتخذتها وكالة المخابرات في مجال توجيه الرأي العام في نواحي العالم، لكي تضمن تحقيق أغراضها، إذ ذكر التقرير أن الوكالة أنشأت وساعدت على إنشاء وكالات أنباء ودورا صحفية في عديد من بلدان العالم الثالث، وقامت بتقديم الدعم المالي لهم، وذلك بهدف استخدامهم في توجيه الرأي العام وفق ما تريد، أو في جمع أخبار وإعادة نشرها بالطريقة التي تحقق لها مآربها.

وفي سياق متصل، أوضح التقرير أن الوكالة قامت بإنشاء قسم خاص لتزييف الكتب، وضرب التقرير أمثلة للكتب التي قامت الوكالة بتأليفها بالفعل وتضمينها معلومات مخالفة للحقيقة، وقامت الوكالة كذلك بإنشاء قسم خاص للتشويه الأخباري، يكون مهمته تلفيق وصنع أخبار وقصص غير حقيقية، بهدف تشويه سمعة أشخاص بعينهم.

وضرب التقرير بعض الأمثلة للأساليب التي تستعملها وكالة المخابرات الأمريكية في عمليات التشويه، منها قيامها بزرع أخبار وقصص قد يبدو مظهرها بريئا، ولكنها في الحقيقة تقصد من ورائها توجيه الرأي العام نحو أمر أخر، لتحقيق غرض معين، وقد تكون وسيلتها في ذلك أن تدس خبرا صغيرا ملغوما في جريدة غير مشهورة، ثم تلفت إليه بطريق غير مباشر أنظار جريدة أخرى أكثر شهرة، بحيث يعثر عليه مندوب إحدى وكالات الأنباء العالمية، ويضعه على أسلاك وكالته، ومن هنا يصبح ذلك الخبر الصغير منسوبا إلى وكالة الأنباء الكبيرة الصادر عنها، وما يعكسه ذلك من قوة تصديق تنسى معها بداية نشره.

باختصار، يمكن أن نصف التقرير الذي أعدته لجنة السيناتور “تشرش” بأنه قد كشف للملأ عن الوجه القبيح لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ذلك الوجه الذي كان لا يشك فيه أحد ولا يماري فيه ممارٍ، وإن كان وصل الأمر إلى حد اليقين بعد إنتهاء اللجنة من عملها، إذ رغم أن وكالة المخابرات الأمريكية بدأت نشاطها في العام 1947 بموجب قانون الأمن الوطني الذي أصدره الرئيس “هاري ترومان“، تحت اسم “وكالة الخدمات الخاصة”، نجد أن هناك العديد من الساسة الذين كان يعلمون ذلك الدور الخفي الذي كان تلعبه وكالة المخابرات الأمريكية في مختلف أنحاء العالم.

وعلى سبيل المثال، نذكر أن الزعيم الهندي الراحل جواهر لال نهرو، أحد زعماء حركة الاستقلال في الهند، وأول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال عن الحكم البريطاني عام 1947، والذي توفى في منتصف العام 1964، أي قبل أن تنشر تلك الحقائق، كان دائما ما يصف “وكالة المخابرات المركزية الأميركية” بأنها “القوة الشريرة الملعونة في زماننا المعاصر”.

ورغم مرور ما يربو عن نصف قرن على وفاة “نهرو” إلا أن عباراته السابقة ظلت تتردد لسنوات طويلة، وتناقلها العديد من الكتاب السياسيين، بل وأكدتها الأفعال التي قامت –ومازالت تقوم بها- تلك الوكالة.

والحقيقة، أنني لم أقصد بما سبق أن ذكرته أن اسرد أحداثا مر عليها الزمن، أو أن أكرر ذكر حقائق ذكرها بصورة أو بأخرى كثيرون من قبلي، ولكنني أقصد إلقاء الضوء على تلك الأساليب المضللة التي دأبت الولايات المتحدة – ومن يسير ورائها – على اتخاذها في التعامل مع الأمور، وبيان مدى ما قد يصل إليه الزيف والكذب في الأخبار أو التقارير التي تصل إلينا، حتى وإن كانت من مصادر موثوقة أو وكالات أنباء عالمية.

تلك الأساليب الرخيصة التي تتخذها بعض الدول – من خلال أجهزة المخابرات التابعة لها – لا تعرف حدا تقف عنده، بل وتستبيح كل الحدود، فكم رأينا من حملات تشويه للأديان والمقدسات والمبادئ والقيم والأخلاق، وكم رأينا من حملات على أشخاص ورموز وطنية، كل ذلك بهدف طمس الحقيقة أو تمويهها، من أجل محو تاريخ وتسطير حاضر جديد وفق ما يريدون، حاضر يُنسي الماضي، ويُحضِر لمستقبل تخلو منه كل حقائق الماضي.

وقبل الختام، وعودة إلى ما بدأنا في مستهل هذا المقال، أقول أنه –في تقديري- إذا كانت حقا هناك قوى خفية اعتادت على العمل في الخفاء، وباستخدام أساليب ملتوية، فإنها لم تلجأ إلى ذلك إلا لأنها على يقين بأن هناك قوة أخرى أكبر منها لا تملك مواجهتها علنا، هي قوة الحقيقة، تلك الحقيقة المتمثلة في مبادئ الأديان، والقيم والأخلاق والتاريخ، التي حاولت –ومازالت تحاول- تلك القوى الخفية في طمسها وتشويهها وإبعاد الناس عنها وإلهائهم بأمور أخرى، تحت مسميات الرجعية والتخلف، من أجل الهيمنة على أفكار الشعوب، والسيطرة على مصائرهم.

وفي ذات السياق، أرى أنه يجب بيان أن أساليب الكذب والتضليل والتشويه وتزييف الحقائق، التي تتبعها بعض الدول، لا تهدف فقط إلى طمس تاريخ أو النيل من سمعة أشخاص أو دول أو جهات معينة، وإنما لتلك الأساليب وجه أخر يجب أن نضعه نصب أعيننا، وهو أنه يمكن أيضا أن تهدف –على غير الحقيقة- إلى تضخيم حجم أشخاص أو دول أو جهات أخرى، وذلك لتحقيق غاية أو غايات معينة.

ولست واهما إذ قلت أن ما تقوم به المخابرات الأمريكية من حين إلى أخر من كشف السرية عن بعض الوثائق المتعلقة بعمليات نفذتها أو اشتركت في تنفيذها، بل وما قام به البعض في بداية السبعينات من القرن الماضي من نشر معلومات سرية، والسابق الإشارة إليه، يعد ذلك أحد الحيل التي تتخذها المخابرات، إذ أن نشر تلك المعلومات بهذه الحبكة الدرامية، ومحاولة تصويرها كمسرحية هزلية أمام الكافة على أنه تم الكشف عن تلك المعلومات في غفلة عنها، قد يكون الهدف منه التأثير المعنوي وبث الخوف في نفوس خصومها بشكل غير مباشر.

وختاما، أؤكد أن الحديث لم ينته بعد، وأن هناك العديد من الأمور التي يلزم تناولها وإلقاء الضوء عليها خلال المقالات القادمة، والتي سوف نستهلها بالحديث عن القوة الوهمية للكيان الصهيوني، وكيف استطاع التواجد في قلب الوطن العربي طوال السنوات السابقة، وأساليبه في ذلك.

أ.د/ شريف سلامة –  دكتوراه في القانون الدستوري