النطف المحرّرة وفيلم “أميرة”

11.PNG
حجم الخط

بقلم: وليد الهودلي

 

أكتب بداية بصفتي شاهد عيان ومشارك للتفكير في التجربة بمراحلها الأولى، كنت حينها في سجن عسقلان سنة 1998، وثار النقاش حول هذا الموضوع ولم يكن له أيّ قبول الا قليلا.

بداية هو تفكير جماعي أنتجته الحركة الاسيرة وقد خاض مخاضا عسيرا واستمرّ عدة سنوات حتى رأى النور وتحوّل إلى فعل نضاليّ يحظى بتقدير عال وقد أعتبر إنجازا هاما من إنجازات الحركة الاسيرة وانتصارا سجّلته على سجّانها وحظي هذا الامر بحالة إجماع للحركة الاسيرة بكلّ فصائلها وكوادرها وعناصرها ولم يعد أبدا اجتهادا فرديّا وإنما هو نتاج فعل جمعيّ لمجمل الحركة الاسيرة في السجون الإسرائيلية.

ثمة في البدايات كانت هناك تخوّفات كثيرة ومحاذير اجتماعية حسّاسة وكان للمعارضين وجهة نظر وتخوّفات يطرحونها، وكانت بداية التفكير من نقطة أنّ السجين الإسرائيلي الجنائي الذي مارس الجريمة يُسمح له بالخلوة مع زوجته في غرفة في السجن وكانوا يأخذون اجازات يخرجون بها من السجن ليمارس حياته الزوجية كما يحلو له، وكان ينجب أطفالا وهو في السجن وهذا معمول به في دول كثيرة في العالم، فلماذا لا يسمح للمعتقل الفلسطيني أن يمارس هذا الحق؟ واضح أن سلطات الاحتلال تمعن في تحقيق أشدّ أنواع المعاناة والالم للمعتقل الفلسطيني والعربي وتعمل جاهدة على منعه من ممارسة حقه بكل السبل، ومنها هذا الحقّ. فكان التفكير بطريقة إبداعية تحقق للمعتقل المحكوم احكاما عالية تحقيق الانجاب وهو داخل السجن بهذه الطريقة: النطف التي يتم تحريرها عنوة ورغم أنف السجان.

ولتحقيق اخراج آمن لهذه النطف ولإغلاق باب تخوّفات البعض وتحفظاتهم وصلت الحركة الاسيرة بتفكيرها الجمعيّ الى شرعنة هذا الامر وتحقيقه دون أية مخاطر لإدراكها بأن أيّ خطأ في الامر سيفسد الامر كلّه وهو ليس عملا ارتجاليّا يحتمل الصواب والخطأ لأنه أمر ذو علاقة بالعرض ومصداقية النّسب وهذه أمور مقدّسة في الحياة الفلسطينية والعربية بشكل عام، فكان اشتراط موافقة اهل المعتقل وأهل الزوجة وكانت دقة عملية التهريب بحيث تسلّم مباشرة يدا بيد ويستقبلها الاهل الى حيث المختبر ومركز التلقيح بطريقة آمنة لا تحتمل الخطأ، وفي هذا مسؤوليات كبيرة لا تحتمل الخلل أبدا.

وقد حققت الحركة الاسيرة إنجازا كبيرا بهذا الفعل على صعيد العمل النضالي العام المشتبك مع سلطات الاحتلال بأعلى درجات القمع والعدوان وصلف السجان، وحقّقت أملا لأسر كثيرة أضافت اليها حياة وحيوية وامتدادا للأسير في نسله خارج السجن وحقّقت روحا وحيوية جديدة لحياة أسرية واعدة لما بعد الافراج المأمول والذي لا يفتقد الأسير الشعور به أبدا.

وقد شهدت التجربة الأولى للأسير المحكوم مؤبدات كثيرة عمار الزبن، حيث كان أوّل من قام بالتجربة، اذ كان لديه بنتين قبل اعتقاله فأضاف لهما أخا ثالثا “مهنّد” فكانت إضافة نوعية لشخص لا يستطيع ممارسة حياته العاديّة أبدا، ما دام في السجن. وقد طرح الموضوع كثيرا على الاسرى ونجح في اقناع كثيرين منهم وكذلك نجح في استصدار فتوى شرعية في البداية ثم حلّ عرى كلّ التحفظات من خلال ما اتخذ من إجراءات سليمة تتجاوز كلّ المخاوف.

قبل أن نأتي للفيلم ،لا بدّ من التذكير بان سلطات الاحتلال القمعية غاظها هذا الامر واتخذت إجراءات كثيرة تمنع وتصدّ محاولات التهريب، وعاقبت كلّ من اكتشفت أنه قام بالتهريب بالعزل فترات طويلة، كما عاقبت أهل المعتقل خاصة الزوجة من الزيارة وصلت لأكثر من سنة وسنتين، فالأمر يتناقض مع فلسفة السجان وأهدافه من منع أسيرنا من ممارسة أي شكل من أشكال الحياة.

هذا الفيلم تماهى مع سياسة السجّان وجاء لينقضّ على هذا الإنجاز وما شكّل من حالة انتصار عظيمة في تاريخ السجون الإسرائيلية سيئة الصيت والسّمعة، فبدل أن يعرّي سياسة السجان القمعية السادية اللعينة جاء ليضرب هذه الحالة المشرقة للمظلوم! وبدل أن ينحاز الى المسحوق والمسلوب من أبسط الحقوق الانسانية إنحاز للجلاد.

والأمر لا يحتمل “الفانتازيا” وخيال مخرج يتناقض مع مقدّسات إنسانية ذات شأن عظيم عند أصحابها، فلو قال قائل “هذا الفيلم يمثّل قصة من خيال كاتب”، فهذا غير صحيح لأنه هو نفسه ربط الأمر مع وضع واقعي محدّد الزمان والمكان، فالرواية التاريخية تلتزم بمصداقية ما حدث بالفعل وتقوم بالتحقّق من الأمر وقد تلعب في الهوامش التي يتطلبها النسيج الفنّي للفيلم دون أن يخلّ في جوهر الرواية التاريخية، أمّا أن تذهب الى النقيض وتضرب أساسيات ما حدث بالفعل فهذا يتناقض حتى مع أصول العمل الفني.

فهل تذكرة الدخول الى النادي الصهيوني والوكر الماسوني وماكينة الدعاية الإسرائيلية ومن لفّ لفيفهم، يتطلّب هذا المسخ الفنّي الذي يخدم المجرمين والمتربصين بالقضية الفلسطينية؟ ، وذلك بضرب كل ظاهرة ننجح في تصديرها للعالم بأبهى وأجمل الصور الانسانيّة.

أمام هذا الفعل العظيم كان من المفروض أن يأتي الفيلم ليظهر تجليّات هذه الروح الإنسانية الكبيرة التي حقّقها الفلسطيني على جلّاده المقيت، كان من المفروض أن يجيد الفيلم رسم شخصية الانسان الفلسطيني الذي حمل على عاتقه مقاومة هذا الاحتلال الاحلالي العنصري الذي احتلّ أرضا ليست له وأقام دولة بكل أشكال الظلم والطغيان،… الأسير هو رمز التحرّر من هذا الاحتلال والذي تلفظه كلّ الثقافات البشرية المعاصرة وعلى مرّ التاريخ.

لو ان كاتب نص ومخرج الفيلم ذهب بهذا الاتجاه وهو اظهار هذا الانتصار العظيم على حقيقته لربح كلّ أحرار العالم وكلّ الرافضين لكلّ أشكال الاستعمار والهيمنة الباغية وقد يخسر في هذه الحالة تمويل الظالمين الذين ما زالوا محافظين على تماهيهم مع الروح العنصرية الغازية للحركة الصهيونية، هو في هذه الحالة التي مثّلها نجح أن يكون بيدقا من بيادقهم. وإذا كان ثمّة ما يقال أن الثقافة مقاومة فإن من الثقافة والادب والإنتاج الفني ما يكون عمالة رخيصة ومبتذلة.