يرى الشاعر الأردني راشد عيسى أن لا هدف للشعر غير الشعر، وأن المرحلة الحالية تحتاج لشاعر رؤيامستقبلية وقصائد الحدس والتخمين والتنبؤ بالغد على غرار أمل دنقل وأبي القاسم الشابي، يعيد للمواطن العربي ثقته بأمته ولغته وأحلامه المنهارة.
ويرى عيسى الفائز بجائزة الإبداع لهذا العام في حوار خاص مع الجزيرة نت، أن الشعراء هم كبار الكذابين وأشباه مجانين وهؤلاء هم الشعراء العظماء، أما المنافقون من أجل المال والشهرة والمصالح الشخصية فستنساهم الذاكرة الأدبية.
يشار إلى أن عيسى أصدر 14 ديوانا شعريا و 10 كتب في النقد و 6 كتب في مهارات الاتصال والحياة و20 مجموعة أناشيد للأطفال ومثلها مجموعات قصصية. وفيما يلي نص الحوار:
كيف تشخص المشهد الثقافي في الأردن عامة والشعري خاصة؟
هناك نخبة من المبدعين لكن لا يوجد تخطيط ثقافي وبرامج وطنية تسعى لإعطاء الإبداع حقه من الانتشار خارج الحدود، فلا مديرية إعلام أدبي تقوم بترويج أو تسويق الإبداع المتميز، وجميع الأنشطة والإصدارات فردانية ارتجالية تعتمد على المبدع نفسه لغياب روافع نقدية ومؤسسية، ممّا يوضح عدم وجود نجم أردني خارج الحدود.
من يقرأ قصائدك يستنتج أنك تتكئ على الموروث رغم أطروحات تعتبره معرقلا للتقدم؟
لا حداثة فنية في النص الجديد ما لم تكن فيه أصالة من الموروث وفاعلية من المعاصرة وشجاعة في الإضافة النوعية، فالموروث يبقى مادة خاما قابلة للتشكل وإعادة الإنتاج من قبيل الاستيحاء وليس الإحياء.
أعارض التقليديين الذين ينسجون أعمالهم الأدبية على غرار الموروث لكنني مع استفزاز الطاقة الإبداعية في النص القديم لإبداع شخصية فنية جديدة من القديمة. فاللغة لا ينبغي التعامل معها بهذه القداسة والوثنية، بل بتجاوزها واختراق أنظمتها مع الحفاظ على المعيار الجمالي الأساسي.
هل الشعر في نظركم نفاق؟
الشعر سيد النفاق والشعراء كبار الكذابين وأشباه مجانين، وهؤلاء هم الشعراء العظماء، ومن ينافق من أجل المال والشهرة والمصالح الشخصية فستنساهم الذاكرة الأدبية لأنهم مؤقتون إذ لا هدف للشعر غير الشعر.
تاريخ الشعر العربي اعتاد شعراء المديح والتكسب ولم ينج سوى أبي الطيب المتنبي لأنه ارتقى بشعره لمستوى الممدوح وقدم أساليب وجماليات جعلت الناس تغض الطرف عن غرض القصيدة.
المرحلة الحالية تحتاج حاليا لشاعر رؤيا مستقبلية وقصائد الحدس والتخمين والتنبؤ بالغد على غرار أمل دنقل، شعراء يعيدون للمواطن العربي ثقته بأمته ولغته وأحلامه المنهارة كالتونسي أبي القاسم الشابي.
لمن تكتب؟ وأين تتجه بوصلتك الشعرية مباشرة؟
أكتب القصيدة أولا لأعيش الحياة فيها ولا أفكر بالجمهور على الإطلاق لأن التشكيل الفني في قصيدتي قائم على ما قاله بشر بن المعتمد "بأن الكاتب النابغ هو الذي يستخدم الألفاظ الناعمة في معان خشنة.. ويكتب للخاصة فيفهمه العامة".
وأستند إلى الإيحاء والكناية والإيماء ولا أسعى أبدا إلى القارئ المصفق لأن الحماس انفعال عاطفي مؤقت، بل أسعى للقارئ المتأمل الذي يجيد التأويل وتحميل النص المعاني البعيدة.
يلقبك زملاؤك بالصوفي الفيلسوف.. هل من توضيحات؟
لي موقف حاد رافض لمفهوم الدنيا لكنه يبجل الحياة، ومنذ طفولتي استطعت الخروج من أناي لأحاول إسعاد غيري وظل شعاري حتى اللحظة "لست أعاتب أي صديق حتى لا أفسد متعته حين أساء ليّ". كما أواجه الحياة بالاحتمال والتجريب وليس باليقين، فالحلم سيدي وحارسي ولا أعيش حياة على أنها منافع، بل أكاذيب جميلة يجب تصديقها حتى نطيق الحياة.
وبتواضع أقول إن قصائدي تتزين بملامح فلسفية وبالذات البعد الصوفي، فالشعر دمعة الفلسفة وهذه نقطة لم تدرس جيدا بعد.
تحدثت غير ذات مرة عن القصيدة الأولى التي لم تنته بعد، ترى ما مواصفاتها؟
أستطيع القول إن أي قصيدة تبقي في وجدان الشاعر آثارا وملامح لم يستطع التعبير عنها فأجلّها ونشر قصيدته كما انتهت، وكل قصيدة من وجهة نظري هي قصيدة لم تنته وهذا سر الشعر وطبيعته المتغيرة التي لا تحتمل النهايات الثابتة، وكثير من الشعراء حاولوا إعادة إنتاج قصيدة قديمة ففشلوا.
في نتاجك الإبداعي حنين إلى الطفولة.. ترى بماذا تذكرك؟
طفولتي سبب بقائي حيا حتى اللحظة، فلم أشعر أنني غادرتها قط فما زال مزمار" شبابة أبي" تعزف ألحانها في أذني، وما زلت أطارد تغريد العصافير وأصوات الطبيعة، كما تخلصت من ثلاث عبوديات الزمن والمكان والأيديولوجيا، وصارت روحي طائرا بريا لا يغريه قصص أو منصب أو هدف دنيوي.
أعيش حياتي كما أعيشها في القصيدة بوجدان براري مثل صياد إذا عطش يطلق الرصاص على غيمة...
أين موقع المرأة؟ وماذا فعلت بك الشهرة؟
للمرأة نصيب كبير في شعري لأنني أؤمن بأن الأنوثة سر الكون، وعبقريتها ربما تفوق عبقرية الماء. وأنا مع قول ابن عربي" كل مكان لا يؤنث لا يعول عليه". لكنني أعيش المرأة في الحلم ولا أرجو أن تكون واقعا لأن الحب حالة حلم خالدة بينما الزواج مؤسسة ضرائبية جمركية استهلاكية باهظة.
أما الشهرة فقد زادتني إيمانا بأن من يطلبها لن تحضر ومن يعف عنها تلحقه، وشخصيا أخلص للقصيدة لأستمتع بوقتي وأحلامي المؤجلة دون أي هدف دنيوي. فالشعر سبب الشهرة وليس المال والسياسة والأيديولوجيا، ولن تغيرني لأنني إن تغيرت سينحط شعري ويصيبني الغرور بالانتكاس.
ما الجديد في ديوانك "دمعة النمر وقصائد رجوى" الفائز بجائزة الإبداع لهذا العام؟
الديوان قصائد صغيرة تعتمد المفارقة والسخرية المرّة والتصوير الفانتازي بلغة تتخطى المألوف من الاستعارات والتراكيب، والجديد الآخر هو الالتفات إلى عبقرية الطبيعة كقصيدة "نهر العرّاف"، وأقصد نهر الأردن، التي تتناول طفولة النهر وصباه وشيخوخته الحزينة من خلال استدعاء تراثه السياسي والجغرافي والميثولوجي.
فطفولتي التي قضيت جزءا منها حول ضفتي النهر منحتني الفرصة الشعرية لأعبر عن علاقتي به وكأنه أحد أفراد أسرتي، فالقصيدة ملحمية تتناول تاريخ النهر وأخلاقه وما يعانيه من نسيان وضياع.
ويضم الديوان مجموعة القصائد الخاصة بحبيبتي المستحيلة "رجوى" أردت نشرها قبل الموت لتكون نهرا لها بعده.
أما العنوان فأردت منه التعبير عن شخصية نمر خجول في نفسي أحبه لأنه جميل وقوي وله كبرياء عالية، وإذا حزن فدمعته تبقى في عينه وربما تنزل عينه قبل دمعته.
كاتبة سورية وصفت شعر الراحل درويش بأنه عصي على الكشف.. ما رأيك بوصفك ناقدا؟
أرى أن محمود درويش شاعر لكل العصور وعبقري في المعمار الفني للقصيدة.. استطاع أن ينزاح عن شعره المقاوم الذي يباشر الحماسة إلى شعره الملقح بالجينات التأملية المنتصرة للإنسان.
كما أنه قارئ ذكي يعيد إنتاج أي معنى سبقه أو رؤيا أو صورة ويكسبها شخصية فنية جديدة باهرة بحيث يظن القارئ أنه مبدعها الأول وفي ذلك مهارة تناص وليس سرقة وإغارات مشروعة يتقن درويش التبرؤ منها.
أصدرت رواية واحدة "مفتاح الباب المخلوع" ثم توقفت فيما يبدو، هل من توضيح؟
تعتبر رواية "مفتاح الباب المخلوع" سيرة ذاتية لطفولتي كتبتها بطريقة هذيانية وهناك أخرى قيد الإعداد "شيء للاشيء" تتناول صراع الجسد مع نفسه عبر ثقافة فلسفية ميثولوجية تشتبك مع أخلاق الجسد.