N21 : الثمن غير المتوقع لاندماج إسرائيل في الشرق الأوسط

حجم الخط

بقلم: إيلي بوديه*

 

 


مرت الزيارة التاريخية التي قام بها رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، إلى الإمارات بهدوء نسبي. حتى أنها لم تفتتح النشرات الإخبارية، ولم تتصدر عناوينها. السلام - كما يتضح - لا يجذب نسباً مرتفعة من المشاهدة. ربما نكون قد تعوّدنا. التهديدات والمخاطر تُسوَّق بصورة أفضل. ومع ذلك، تبقى قصة العلاقات بين إسرائيل والإمارات قصة مثيرة ومهمة، لأنها توضح مدى تعقيد الحلبة الشرق الأوسطية. كل مَن يرغب في تقسيم هذه المنطقة إلى أخيار وأشرار، معنا أو ضدنا، سيجد نفسه، مرة أُخرى، مشدوهاً حيال الحنكة السياسية التي يبديها اللاعبون في المنطقة، وخصوصاً أولئك الذين في الخليج.
تطورت العلاقات الإسرائيلية - الإماراتية بوتيرة مذهلة خلال السنة الأخيرة. وكشف التلخيص الذي وضعته السفارة الإماراتية في الولايات المتحدة عمّا لا يقل عن 70 لقاءً ونشاطاً مشتركاً واتفاقية: في المجال الدبلوماسي دُشنت العلاقات الدبلوماسية الرسمية وعُقدت لقاءات سياسية، بما في ذلك زيارة وزير الخارجية، يائير لابيد، وفي مجالات الاقتصاد والتجارة أُبرِمت صفقات عديدة بين بنوك وشركات متعددة، وفي مجالات التكنولوجيا والبيئة والطاقة عُقدت صفقات بين شركات إسرائيلية وخاصة، وفي مجالات الصحة والسياحة والطيران وُقِّعت اتفاقيات بين وزارات حكومية وشركات خاصة، كما جرى التوقيع أيضاً لنحو عشرين اتفاقية بين منظمات المجتمع المدني. وبحسب التقديرات المتعددة، بلغت قيمة التبادل التجاري خلال السنة الأولى نحو مليار دولار، بينما الإمكانات الكامنة أكبر من ذلك بكثير. لدى الإمارات، كما اتضح لنا، مصلحة في توثيق التعاون الأمني والاستخباراتي في مقابل التهديدات النووية والبالستية الإيرانية، فضلاً عن المصلحة في الاستفادة من التطور التكنولوجي الإسرائيلي. وعليه، فقد شكلت زيارة بينيت تجسيداً للتعاون الواسع والمتشعب الذي يتطور بين البلدين.
في موازاة تعزيز التعاون مع إسرائيل، اتخذت الإمارات جملة من الخطوات المهمة لتعزيز علاقاتها مع تركيا وإيران. ففي تشرين الأول الماضي، قال مستشار حاكم الإمارات ووزير الدولة للشؤون الخارجية حتى فترة وجيزة، أنور قرقاش، إن على الإمارات إدارة خصومتها مع تركيا وإيران بالحوار، وذلك بسبب الغموض الذي يكتنف الالتزام الأميركي تجاه المنطقة، وبسبب "الحرب الباردة" الآخذة في الاحتدام بينها وبين الصين.
وتحقق هذا التوقُّع سريعاً: في نهاية تشرين الثاني الماضي، التقى ولي العهد الإماراتي، محمد بن زايد، الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بعد نحو عقد من الجمود في العلاقات بين الدولتين. فقد وجدت الإمارات وتركيا نفسيهما على جانبي المتراس في جميع النزاعات الإقليمية - سورية، واليمن، وليبيا، والقرن الأفريقي. كذلك، حوّل الدعم التركي لحركتي "الإخوان المسلمين" و"حماس" أردوغان إلى نوع من العدو، وخصوصاً على خلفية التحالف الذي عقده مع قطر، التي حوربت بالمقاطعة من جانب الدول الخليجية حتى فترة غير بعيدة. لكن تقليص أو وقف التدخل الإماراتي في اليمن وليبيا، بالإضافة إلى الرغبة في التحول إلى مركز اقتصادي عالمي، إلى جانب التراجع الحاد في قيمة الليرة التركية وفي الاقتصاد التركي، أمور كلها شكلت مجتمعة فرصة اقتصادية مؤاتية أمام الإمارات للاستثمار في تركيا.
علاوة على هذا، ثمة فكرة تقول، إن البضائع من آسيا يجب أن تمر من الإمارات إلى إيران، ومنها إلى تركيا، وهو مسار قد يقلّص طريق التوريد المعتمدة، اليوم، عبر قناة السويس. وبالفعل، جرى بحث هذه الفكرة، كما يبدو، خلال لقاء وزيري الخارجية الإماراتي والتركي في طهران قبل أيام قليلة من الزيارة الإماراتية إلى تركيا. خلال زيارة محمد بن زايد إلى تركيا، جرى توقيع عشر اتفاقيات في مجالات الاقتصاد، والتجارة، والطاقة، والبيئة، بقيمة إجمالية بلغت مليارات الدولارات.
في المقابل، كان المحور الإماراتي - الإيراني نشطاً هو الآخر: فبعد خمسة أعوام من القطيعة السياسية زار طهران في السادس من كانون الأول الجاري طحنون بن زايد، مستشار الأمن القومي في الإمارات وشقيق محمد بن زايد، والتقى هناك الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي في إيران، علي شمخاني. وليس من المستبعد أن يكون قد التقى، أيضاً، وزير الخارجية السوري الذي كان يزور طهران في الوقت ذاته. بين الإمارات وإيران علاقات تجارية واسعة جداً تبلغ قيمتها بضعة مليارات من الدولارات، فآلاف الشركات الإيرانية تعمل في الإمارات، ومئات آلاف المواطنين الإيرانيين يقيمون في الإمارات. ليس ثمة شك في أن القرب الجغرافي بين الدولتين هيأ لهما فرصاً اقتصادية مهمة في فترة حرجة، مثلما صمدت العلاقات التجارية بين إسرائيل وتركيا في إبان الأزمات السياسية. وعلى أي حال، من شأن الزيارة المرتقبة، التي سيقوم بها أردوغان إلى طهران، أن تتمخض، ليس عن توقيع اتفاقيات ثنائية بين الدولتين فحسب، بل عن تعزيز العلاقات الثلاثية مع الإمارات أيضاً.
وتدل التطورات التي شهدها الشهر الأخير على مدى سذاجة التقسيم الثنائي بين تحالف الدول "المعتدلة" في مقابل تحالف "محور الشر" الإيراني - التركي - القطري، وذلك لسببين اثنين أساسيين: الأول أن الإمارات تدير سياسة محنكة تحاول حماية جميع أطرافها في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية، والثاني أن تركيا تجري حواراً سياسياً مع إسرائيل.
مع توقيع اتفاقية التطبيع، اعتبرت إسرائيل الإمارات حليفاً في حربها ضد إيران النووية، وهو ما سيتجسد ربما في التأييد الصامت لهجوم تشنه إسرائيل، إذا ما أملت الظروف ذلك، وبصورة خاصة حيال السياسة المتسامحة التي تنتهجها إدارة الرئيس جو بايدن. غير أن التطورات الأخيرة على جبهة العلاقات بين الإمارات وإيران وتركيا من شأنها أن توحي ببرود ما، أو اعتدال ما، في الموقف الإماراتي من قضية النووي الإيراني. في مثل هذه الحال، قد تشكل اتفاقية التطبيع عائقاً أمام عملية إسرائيلية مستقلة، إذا ما كان من شأنها المس بالعلاقات الإسرائيلية - الإماراتية بصورة جدية. البيانات الرسمية ترافقت مع تصريحات متكررة ومبتذلة لم تكشف عن حقيقة ما دار خلال المحادثة المطولة المغلقة التي جرت بين بينيت ومحمد بن زايد. في ضوء هذا، يدرك صناع القرارات في القدس أن للاندماج في الشرق الأوسط أثماناً مختلفة، أحدها هو النظر إلى المنطقة، ليس كما تبدو من القدس فقط، بل من أبو ظبي، والقاهرة، وعمان، والرباط أيضاً.


عن موقع "N12"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*بروفيسور وأستاذ الدراسات الإسلامية والشرق الأوسطية في الجامعة العبرية في القدس وعضو إدارة معهد "ميتفيم" (مسارات) – المعهد الإسرائيلي للسياسات الخارجية الإقليمية.