تصاعدت في الشهور الأخيرة اعتداءات المستوطنين المتطرفين على المواطنين المدنيين الفلسطينيين وممتلكاتهم، إلى درجة لفتت انتباه الخارجية الاميركية حيث أثارت مساعدة وزير الخارجية الأميركي فيكتوريا نولاند هذه القضية "المقلقة" مع وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي عومر بارليف الذي لم يكن أمامه منمفر سوى الإقرار بالظاهرة، ما جعله عرضة لانتقادات شديدة من رئيس الوزراء نفتالي بينيت وسائر الأحزاب والقوى اليمينية.
التدقيق في هذه الاعتداءات يثبت أنها تتوافق وتنسجم مع ما تقوم به سلطات الاحتلال حكومة وأذرعا عسكرية ومدنية، ضمن مخطط متكامل للسيطرة على اكبر مساحات ممكنة من الأراضي الفلسطينية، وتهويد القدس والأغوار والبلدة القديمة في الخليل، وضم كامل المناطق المصنفة (ج) التي تعادل مساحتها 61% من مساحة الضفة الغربية.
فالمستوطنون هم فرقة متقدمة بين القوى التي تهاجم مدينة القدس ضمن مخطط التهويد والأسرلة والتطهير العرقي للفلسطينيين فيها، ودور المستوطنين يتكامل مع أدوار الحكومة ومؤسساتها ومع البلدية والأجهزة الأمنية، الكل يعمل ضمن مخطط متكامل وبشكل متناغم، وما قام به المستوطنون مؤخرا تجاه أرض عائلة سالم هو في الجوهر نفس ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية تجاه الأراضي الفلسطينية بشكل عام مع الفارق أن الحكومة تعطي ممارساتها تخريجات قانونية وأمنية منمقة بينما المستوطنون يقومون بعملهم بشكل مباشر ومن دون أن يحاولوا تغطيته بأية ذرائع أو تبريرات قانونية أو أمنية، اللافت أن كل أعمال المستوطنين تحظى بغطاء ودعم وحماية الحكومة وأجهزتها الأمنية، كما أن المستوطنين هم انفسهم مسلحون وحكومتهم تعطيهم الحق في إطلاق النار على اي فلسطيني يشتبهون به.
بمجرد وصول الأرض والعقارات لأيدي المستوطنين والجماعات الاستيطانية، ستبدأ عملية إشغالها على نمط ما يجري في باقي الأحياء والبؤر الاستيطانية في المدينة والتي تشمل مشروعات شقق سكنية وكنس ومؤسسات ومدارس "ييشيفا" لتعليم التوراة لكي يعطوا المكان طابعا دينيا مقدسا يجعل التخلي عنه في المستقبل أمرا عسيراـ في العادة، المشاريع التي تنفذ تخضع لتخطيط ومصادقة عدة جهات من بينها مجلس التخطيط وبلدية الاحتلال، وقبل ذلك سوف تدخل شركات ومستثمرون أفراد على الخط.
وما يجري في كل القدس وليس في الشيخ جراح فقط، بل كذلك داخل البلدة القديمة ومنطقة باب الخليل وباب السلسلة وحارة الأرمن وأحياء بلدة سلوان (وادي ياصول والبستان ووادي حلوة) وإغلاق بلدة العيسوية ومداهماتها المستمرة وحواجز التفتيش المشددة على باب العامود وباب الأسباط ومداخل المسجد الأقصى، وعمليات قتل الفلسطينيين الميدانية وإعدامهم خارج نطاق القانون لمجرد الاشتباه بهم، كل ذلك يصب الزيت على نار الغضب والقهر التي يعتمل جمرها في صدور المقدسيين والفلسطينيين بشكل عام، المشهد يتحرك باتجاه معركة شاملة على كل شيء: على الوجود وعلى الأرض والمقدسات وعلى حق الحركة والعمل وبالتالي كل ذلك يمهد لانفجار قادم ولكن لا نعلم إن كان هذا الانفجار سيكون عفويا أو منظما على غرار الانتفاضتين السابقتين ، الأمر منوط بالقوى الوطنية وجاهزيتها لقيادة وتوجيه المرحلة المقبلة سواء من حيث وحدتها ودرجة التنسيق بينها، أو من جهة جاهزيتها واستعدادها لتحمل كلفة هذا الخيار.
ترتبط اهمية مشاريع التهويد بأهمية مدينة القدس ومكانتها بالنسبة للمشروع الوطني الفلسطيني من جهة ومشروع الاحتلال من جهة أخرى، حين نتحدث عن القدس فنحن نتحدث عن القدس الكبرى التي تمتد بطول 30 كيلومترا من بيت لحم حتى رام الله، وبعرض أكثر من ذلك من خطوط الهدنة عام 1948 حتى حدود البحر الميت ومشارف أريحا والأغوار وتصل مساحتها إلى نحو 700 كيلومتر مربع لتضم مجموعة الضواحي والمدن الاستيطانية في محيط القدس مثل تجمع معاليه أدوميم شرقا، وجبل أبو غنيم جنوبا، وراموت وجفعات زئيف في الشمال الغربي، ومخطط المستوطنة الكبرى على أرض مطار القدس شمالا، و اي حوالي 15% من مساحة الضفة الغربية،
هذه المساحة تفصل جنوب الضفة فصلا تاما عن وسط الضفة وشمالها وبالتالي تجعل من فرصة قيام دولة فلسطينية أمرا مستحيلا أولا لأهمية القدس الروحية والثقافية والسياسية والتاريخية والديمغرافيا وموقعها كعقدة مواصلات، ووجود المؤسسات الدينية والصحية والتعليمية والاقتصادية فيها، وثانيا لأن ما يتبقى من الأرض المحتلة المقطعة الأوصال سيتحول إلى بانتوستانات (معازل) متفرقة هي مجرد مساكن للعمال الفلسطينيين دون اي مجال حيوي لتطوير بما يتناسب مع حاجات السكان مستقبلا، وليست مدنا ولا قرى ولا محافظات، بالنسبة للمشروع الصهيوني تهويد القدس يخدم الرواية الصهيونية التوراتية التي تدّعي أن المشروع الاستعماري الاستيطاني هو تنفيذ للوعد الإلهي في أرض الميعاد.
من أجل التصدي لكل ذلك بنجاعة وكفاءة، المطلوب فلسطينيا أولا استعادة الوحدة الوطنية واعتماد استرايتيجة وطنية يكون هدف تعزيز صمود المقدسيين في مقدمة أولوياتها، وهذا الهدف له عشرات الروافع في كافة مجالات حياة المقدسيين التجارية والاقتصادية والتعليمية والصحية والاسكانية، يجب أن يعمل الفلسطينيون على التحرر من قيود اتفاق اوسلو التي تمنع السلطة أو اي جهة رسمية من العمل او الاستثمار في القدس
كما تمنع الجهات المانحة أو تحد من قدرتها على دعم مشاريع التنمية ودعم الصمود في القدس، عربيا ينبغي اعادة بناء الموقف العربي والاسلامي على اعتبار أن القدس توحد العرب والمسلمين والمسيحيين وينبغي الا تفرقهم وذلك من خلال إحياء وتفعيل لجنة القدس وتنفيذ قرارات القمم العربية بشأن القدس، دوليا ينبغي الاستفادة مما تتيحه أدوات القانون الدولي ومواصلة العمل عبر المحافل الدولية وخاصة مجلس الأمن والجمعية العامة واليونسكو وباقي المنظمات الدولية والإقليمية، واستنهاض حملات التضامن والمناصرة بتشكيل ضغط دولي على حكومة الاحتلال يمنعها من تغيير الوضع القائم وخرق قرارات الأمم المتحدة بشأن القدس.