في ساحة الألم…

أسامة-الأشقر.jpg
حجم الخط

بقلم: الأسير أسامة الأشقر

 

في ساحة الألم مكان محاط بالأسوار ومسيج بالقضبان تعلوه الأسيجة، الأسلاك الشائكة، أرضية حمراء اللون تطل عليها أبواب وشبابيك زرقاء، مساحته لا تعادل ملعبا لكرة السلة يتحرك سكانه بحركة دائرية كي يستطيعوا مواصلة السير دونما اصطدام أحدهم بالآخر.
بينما أسير أنا وصديقي الروائي باسم خندقجي في الفسحة الصغيرة في وسط هذه الدائرة المخصصة للسير نتجاذب أطراف الحديث وما استجد من تطورات على مختلف الأصعدة، وكعادتنا يبدأ الحديث بأخبار الصفقة أو الإفراجات أو بمعنى آخر إذا ما كان هناك بصيص أمل لحياة حرة بعيدة عن هذه القيود. وإذا ما سمع أحدنا شاردة أو واردة على إحدى الإذاعات وبعد هذه الوجبة الضرورية ينتقل الحديث سريعا عن الحالة الفلسطينية المشرذمة المتهالكة وكيف أننا بلمحة بصر عدنا لأيامنا بعد النكبة بقليل، وكيف أن فصائلنا جمعاء قد فقدت شرعية وجودها وأصبحت حملا زائدا على أكتاف شعبنا فمن يمثلها اليوم إما أنهم لا يدركون حجم الكارثة التي وصلنا إليها، أو أنهم غير مهتمين لمصير هذا الشعب وهذه القضية، وأننا نعيش الآن في محنة هي الأصعب من تاريخ شعبنا وكأن الجراح تندلج أمامنا دفعة واحدة حيث يسوقنا حديث الحالة الفلسطينية البائسة لتناول أكثر أوجاعنا نزفا، فمن تغيبه زنازين السجون لعقود ويفقد أحد أفراد أسرته بين الحين والآخر لا يكاد يوم يمر إلا ويتذكر وجعه فحديث باسم الممزوج بالألم عن ذكرياته مع والده وكيف أنه كان يحضره لهذه الهزة النفسية الثقيلة أعادني فجأة لقاع البئر حيث حاولت مرارا هدم هذا الجرح منذ خسارتي الجسيمة قبل عام ونصف عندما سرق الموت والدي مني الذي ما زلت أشتم رائحته حتى اللحظة. كان باسم بحديثه ينكأ جراحا لم تندمل بعد، ومع كل كلمة تذكر بها والده وهو يزفر وجعه وألمه من بين شفاهه كانت السكاكين تلاحقني حتى أنه قال أنه إذا ما تحرر فلن يقبل بأقل من حفر قبر والده للتأكد من فداحة خسارته ولكي يبكيه ويجلس بجانبه قبل أن يعيد هو دفنه في ذاكرته أولا وفي التراب ثانية.
كيف لا ونحن نشاهد يوميا حلقات الجرح تتواصل فمئات الأسرى يفقدون أمهاتهم وأبائهم دون أن يستطيعوا البكاء في حضرتهم أو على شواهد قبورهم ودونما إلقاء نظرة الوداع الأخير التي هي عرف إنساني عام ، فلا يعلم فداحة الخسارة من يقف ينظر من بعيد على حالة الفقدان هذه فلو تحدثت الدنيا كلها عن مصاعبها وآلامها لن تصل لأطراف وجع أسير فقد أحب أحبائه وهو بعيد مقيد لا يستطيع أخذ حقه في الحزن براحتة ودون قيود السجان والمحيط والإنكشاف الاجتماعي.