يشوب القرار بقانون المعدل لقانون ديوان الرقابة المالية والإدارية شبه فساد سياسي تتمثل بإصدار قوانين لغايات شخصية أو لشخص محدد دون غيره وليست للمصلحة العامة. كما يعرض هذا القرار بقانون ديوان الرقابة إلى مس في استقلاليته من خلال رفع الحصانة الأصلية التي قدمها المشرع الفلسطيني الأصيل "المجلس التشريعي" لرئيس الديوان والمتمثلة بتعيينه لفترة واحدة غير قابلة للعزل خلالها إلا بإجراءات معقدة لضمان استقلاليته وحياديته وعدم خضوعه لأهواء السلطة التنفيذية وإغراءات التعيين المتكرر.
إن فلسفة الحصانة المبنية على عدم العزل في الفترة المحددة "سبع سنوات" تقوم على أن سيف العزل في حال ممارسة رئيس الديوان والديوان لمهامه المنصوص عليها في قانون الديوان ذاته أو القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية غير موجود، كما أن سيف التمديد لرئيس الديوان القائم على نيل رضا السلطة التنفيذية وأعوانها بعدم كشف المخالفات والتجاوزات وشبهات الفساد أيضا غير موجود.
من نافل القول إن الدولة التي تروم الحفاظ على ممتلكاتها وحقوق مواطنيها، وترنو لتقوية مناعة مؤسساتها من الفساد، وتهدف إلى ضمان جودة خدماتها وتحسينها، وتضع عوائق أمام الراغبين بالمساس بالمال العام، فإنها تضمن وجود جهاز رقابة مستقل وفاعل وغير خاضع لأهواء السلطة التنفيذية. إن استقلالية الديوان وفعاليته في أعماله وإنجاز مهامه على الوجه المبين في قانون ديوان الرقابة المالية والإدارية رقم 15 لسنة 2004 المقر من المشرع الأصيل مرهونان بأحد أهم المؤشرات الدالة عليها؛ وهو عدم رهن رئيس الديوان بتسليط سيف العزل أو التمديد على رقبته.
يحمل القرار بقانون رقم 39 لسنة 2021 والصادر في 25 تشرين ثاني/ نوفمبر الفارط أربع تعديلات جوهرية ضامنة للتدخل في عمل الديوان من خلال السيطرة على عليه والحد من استقلاليته تتمثل أولاً: كما أشرنا إليه في الفقرات الفارطة أعلاه جرى تعديل المادة العاشرة من القانون الأصلي لناحية التمديد لرئيس الديوان لثلاث سنوات متتالية؛ فبدلا من انتهاء المدة القانونية المحددة بسبع سنوات وفقا للمشرع الأصلي بات النص يقول إنه يمكن التمديد لرئيس الديوان لمدة "لا تزيد عن ثلاث سنوات". من غير الواضح إن كانت هذه المدة بقرار واحد "أي الثلاث سنوات دفعة واحدة" أو أنه سيتم التحكم بالتمديد سنة إثر سنة، وفي كلاهما يعني المس بالحصانة التي يتمتع بها رئيس الديوان من العزل خاصة أنَّ مَنْ يقوم بحياكة التشريعات لديه فلسفة مغايرة للمشرع الأصلي قائمة على التحكم في المناصب العليا في الدولة لضمان الولاء بالأساس، أو أنّ له إدراكاً مغايراً لإدراك المشرع الأصلي القائم على بناء مؤسسات دولة ديموقراطية تضمن إعمال مبدأ فصل السلطات وفقا لأحكام القانون الأساسي، وتضمن وجود مؤسسات فعّالة ومساءلة.
وثانياً: بات قرار التمديد لرئيس الديوان بيد الرئيس وحده، وفقا للنص الجديد، في ظل غياب وضوح آلية اتخاذ هذا القرار "التمديد" في جهاز الرئاسة الفلسطيني من جهة، وفي مخالفة لأحكام القانون الأصلي التي تشير إلى أن مجلس الوزراء هو من يُنسّب للرئيس بتعيين رئيس الديوان؛ فالأصل من يقوم بالنسيب للتعيين هو من يطلب "يُنسّب" للتمديد خاصة أن المشرع الأصلي "المجلس التشريعي" كان مدركاً لأحكام المادة 46 من القانون الأساسي التي نصت على أن مجلس الوزراء يساعد الرئيس في أداء مهامه وممارسة سلطاته على الوجه المبين في هذا القانون الأساسي من جهة ثانية.
وثالثاً: في إطار إحكام السيطرة على ديوان الرقابة المالية والإدارية، تم تعديل المادة الثالثة عشر منه لتصبح "يُشكل الديوان من رئيس الديوان ونائبه ومدير عام الديوان وعدد من المدراء العامين والمدراء والمستشارين والخبراء والمفتشين والفنيين والموظفين وفقًا للهيكل التنظيمي وجدول تشكيلات الوظائف المعتمدين من رئيس الدولة" فيما النص الأصلي يمنح حق إقرار واعتماد جدول التشكيلات للمجلس التشريعي. وفي هذا النص بات التحكم في التعيينات وحجمها وشكلها والهيكل التنظيمي للديوان بيد رئيس السلطة التنفيذية ما يتيح فرص لتقليص فعّالية الديوان من خلال التحكم في جدول التشكيلات والهيكل التنظيمي. إن هذا التحليل ناجم عن السياق العام للقرار بقانون القائم على إحكام السيطرة على الديوان وأعماله وفعاليته واستقلاليته وحياديته.
ورابعاً: جرى تعديل أحكام المادة الخامسة عشر من القانون الأصلي لديوان الرقابة التي تنص على "1. إذا شغر مركز رئيس الديوان يعين بديل آخر له خلال مدة أقصاها شهر من تاريخ الشغور وفقا لأحكام هذا القانون. 2. يقوم نائب رئيس الديوان بمهام رئيس الديوان خلال المدة المذكورة في الفقرة (1) أعلاه." بحيث أصبحت " إذا شغر مركز رئيس الديوان، يقوم نائب رئيس الديوان بمهامه إلى حين تعيين رئيس للديوان"، أي أن التعديل عمل على إلغاء المدة الإلزامية لتعيين رئيس جديد "بديل آخر" للديوان المحددة في النص الأصلي بمدة أقصاها شهر في حال شغور مركز رئيس الديوان وأبقاها مفتوحة إلى أجل غير معلوم، وأحال الاستثناء المؤقت إلى دائم.
هذا النص يشير إلى مسألتين الأولى: تفيد بوجود صراع بين مراكز النفوذ في السلطة التنفيذية قائم على تعزيز الهيمنة على هذا المنصب والتخوف من قيام مجلس الوزراء بتنسيب شخص جديد لرئاسة الديوان في إطار هذا الصراع، والثانية إبقاء نائب الرئيس القائم بمهام رئيس الديوان في حال الشغور تحت سيف التعيين أو الخوف من الاتيان ببديل عنه؛ ما يتيح فرص للحد من استقلالية الديوان وفعاليته، وما يضمن بقاء الولاء الشخصي على أمل الحصول على المنصب.
في ظني أن المشكلة ليست في ثوب التشريعات الفلسطينية بل في مَنْ يُحيك هذا الثوب وفي العملية التشريعية الحالية بمجملها الرافضة لمشاركة الأطراف المختلفة؛ باعتبار أن هذا التشريع أو ذاك هو معالجة داخلية لتقاسم المصالح وتوزيع الغنائم من جهة، وإخضاع المسؤولين بضغط الامتيازات لضمان الولاء للأشخاص من جهة ثانية.
إن إبقاء هذه الحالة؛ الانغلاق بنقاش التشريعات من قبل مجموعة محدودة من الأشخاص والإبقاء على سرية إعداد وإصدار التشريعات والامتناع عن الانفتاح وعن التشاركية مع الأطراف المختلفة المعنية بمناقشة مشاريع القوانين، لن يؤدي إلى العوار الدستوري فيها فقط بل إلى الفساد التشريعي المفضي لتفشي الفساد السياسي.