ما الذي تغيّر؟

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

في نهاية الثمانينيات، وفي ظل ظروف معينة، كنتُ كل صباح أقرأ الجرائد المحلية كلها، من الصفحة الأولى وحتى الأخيرة (أو بالعكس)، لا أترك خبراً ولا تحليلاً ولا مقالاً. وفي بقية النهار أتابع نشرات الأخبار على الراديو، وفي المساء أتسمر أمام التلفاز، أشاهد كل ما يعرضه من أخبار وبرامج ومسلسلات.   
أهم ما لاحظته حينها أن الجرائد كانت تنشر كل شيء تقريباً: الأخبار المحلية والعالمية والمقالات الانتقادية وآراء المعارضة (ضمن المعقول، وحسب السقف المتاح). في الإذاعة يتم تقليص بعضها، أما التلفاز فيحجب ويختزل معظمها.
وفي هذه المرحلة، كان التلفزيون الرسمي أداة الإعلام الرئيسة والأوسع انتشاراً، والذي يصل كل بيت. وهو الوحيد المتاح (مع استثناءات قليلة). أما الراديو فهو أقل شعبية، ثم تأتي الجرائد التي لا يقرؤها سوى عدد محدود جداً من الناس. وأغلب من كانوا يشترون الجرائد في تلك المرحلة إما لمعرفة أسعار الخضار، أو متابعة أخبار الرياضة، والوفيات والإعلانات. والقلة الأقل منهم من يقرأ المقالات.
في ظل هذه التراتبية كانت الدولة تتحكم في الإعلام، أي بتحديد سقف معين لكل جهة إعلامية، وبحسب طبيعة جمهورها. فمثلاً تسمح للجرائد بنشر أصوات المعارضة والانتقادات لأن نسبة من يقرؤونها محدودة جداً. في حين تحظر على التلفاز نشر أي انتقاد، بل وحتى نشر الأخبار التي لا توافق هوى السلطة. وبذلك كانت الدولة تنجح إلى حد ما في تغييب الجمهور عن قضايا مهمة جداً، وتحييده عنها. إلى جانب لعبتها الأزلية بتحديد الأولويات التي ستضخها في وسائل الإعلام، والتركيز على ما تريد، وإهمال ما لا تريد، أي توجيه الرأي العام.
في عقد التسعينيات بدأ الوضع يختلف، أي مع ظهور الفضائيات، الأمر الذي حرم كل دولة من ميزة احتكارها للإعلام، وتوجيه الأخبار بحسب ما تريد. فصرنا نعرف أشياء كثيرة كانت مغيبة عنا. ولم يعد بالإمكان إخفاء خبر. ثم انتشرت ظاهرة البرامج الحوارية، والتي صارت تستضيف معارضين من شتى الاتجاهات السياسية والمشارب الفكرية.  
ومع ذلك، ظلت تلك الفضائيات محكومة بسقوف ومحددات سياسية، ولم تحظ تلك النوعية من البرامج بشعبية واسعة. لكنها كانت خطوة إضافية، فتحت مدارك الناس، ونبهتهم، وحفزت في عقولهم بعض الأسئلة.
ترافق ظهور الفضائيات والأطباق اللاقطة مع انتشار تدريجي للإنترنت، وبدأ جهاز الكمبيوتر يحتل مكانه ضمن أثاث المنزل الأساسي، إلى جانب التلفزيون. وعلى مدى عقد كامل، سارت المحطات الفضائية (التي صارت ديجتال) إلى جانب الإنترنت (الذي صار يدخل كل بيت، وصارت سرعته تزداد اطّرادياً). وكانت تلك المرحلة تأسيساً وتمهيداً للانفجار القادم.
مع بدايات العشرية الأولى بدأت محركات البحث بالظهور (خاصة غوغل). وبدأت تبدو في الأفق إمكانيات واعدة للإطلاع على كتب وأخبار وأسرار ومعلومات لم تكن متاحة قبل ذلك، ثم تبين أن هذه الإمكانيات لا حد لها ولا حصر، وهي آخذة بالتوسع والانتشار كماً ونوعاً وبشكل خرافي.
هذا التغير النوعي لم يكن فقط بإمكانية معرفة كل شيء، أو بالانفجار المعرفي والمعلوماتي، بل بإمكانية مشاركة أي مواطن يمتلك حاسوباً واشتراكاً على الإنترنت. حينها ظهرت موجة المنتديات والصفحات التفاعلية.
لكن التغير النوعي الأكبر، والذي دشن عصراً جديداً بكل معنى الكلمة، هو افتتاح عصر «السوشيال ميديا». والذي جاء مترافقاً مع اختراع جديد سيقلب حياتنا رأساً على عقب: الهواتف الذكية.  
وصل هذا المسار إلى مرحلة امتلاك كل مواطن (حتى الأطفال) هاتفاً ذكياً، موصولاً بالإنترنت، ولديه حساب واحد على الأقل في إحدى وسائل السوشيال ميديا.  
بعد هذه الرحلة السريعة، لنعد إلى الوراء قليلاً (لنقل ثلاثة آلاف سنة). في تلك المرحلة ظهرت الأديان السماوية، وظهرت أيضاً الديانات الأيقونية المحلية، وظهر أيضاً مصلحون، وفلاسفة، ومدّعون، وتكونت أهم الأفكار الفلسفية والنظريات الوجودية والعلمية. ومنذ ذلك الوقت، وحتى القرن الثامن الميلادي، كان كل ما كتبه النسّاخ والمؤلفون والمفكرون (بما في ذلك الكتب المقدسة) إما على ألواح طينية، أو نقوش حجرية، أو على ورق البردي، وجلود الماعز.
كانت الصين وحدها تعرف صناعة واستخدام الورق (قبل الميلاد بقرن تقريباً)، وقد صدّرت هذه الصناعة لأول مرة إلى كوريا واليابان في القرن السابع، ثم أوصلتها للمنطقة العربية في القرن الثامن، ثم إلى أوروبا مع نهايات القرن الحادي عشر. وهكذا تزامنت بداية العصر الذهبي للحضارة الإسلامية مع وصول الورق، وإمكانية نسخ الكتب والمؤلفات.
كان المؤلف يحتاج دزينة من النساخ، وكميات هائلة من الورق، أو من الرقع والجلود. ثم ينهمك معهم في ورشة عمل تستغرق أشهراً مضنية حتى يحصل على بضعة نسخ، وكان وزن الكتاب ثقيلاً، وتكلفته باهظة. لذا فإنه عادة يهدي نسخة للخليفة (إذا كان مشجعاً للعلم) ونسخة لوزير الدولة، أو لقائد الجيش، ونسخة يضعها في الجامع الكبير، أو في المكتبة العامة، أو يهديها لعالم آخر، أو فقيه، أو تلميذ نجيب. بمعنى أن عامة الشعب لم تكن قادرة على تناول تلك الكتب، إلا بمقدار ما يُطلع الفقيه أو العالم تلاميذه ومريديه عليه. وعادة سيختار ما يراه مناسباً ومشوقاً ومفيداً. أي أن قراءته انتقائية. ومع ذلك، هذه الميزة كانت خاصة بالبلدان الإسلامية، ولم تكن متاحة للناس في أوروبا. حيث كانت الأمية مستفحلة، وكانت الكنيسة تحصر حق التعليم بنخب محددة وضئيلة جداً.  
في العام 1436 اخترع الألماني جوتنبرج المطبعة، التي أتاحت نشر الصحف والكتب، ومهدت لتدشين عصر النهضة.
صحيح أن الكتب والمعارف والعلوم والنظريات الفلسفية والأيديولوجية بدأت تنتشر في أوساط الشعب، ولم تعد حكراً على الطبقة «النبيلة»، لكنها ظلت محصورة في أيدي النخب «المثقفة»، وظل المواطن العادي يسمع ويقرأ ما يُتاح له فقط، أي ما تسمح به تلك النخب، وظلت تلك النخب قادرة على خلق وتوجيه الرأي العام.
وظل الوضع كذلك لآلاف السنين، حتى حصل التغير الثوري قبل عقدين فقط.  
حيث ظهرت «السوشيال ميديا»، والتي من خلالها تم نبش كل شيء، حرفياً. وبهذا النبش كُشفت أسرار، وفتحت بطون الكتب، وتكشفت حقيقة شخصيات كثيرة، وأميط اللثام عمّا كان مخبئاً في عباءة المقدس، وأثير الجدل في مواضيع كانت محرمة. وهذا كله ستظهر نتائجه في الجيل القادم.
ما الذي تغير بالضبط؟ سؤال المقال القادم.