في المقال السابق تتبعنا سير تطور الإعلام وانتشار المعرفة، من الكتابة المسمارية والنقش على الحجارة، حتى عصر الإنترنت والنقر على الكيبورد.
أهم ما ميز تلك الحقبة التاريخية التي امتدت آلاف السنين، هو سيطرة الدولة، أو النخب الحاكمة (وكذلك المثقفة)، أو طبقة رجال الدين على الإعلام، واحتكارهم العلم.. خاصة مع انتشار الأمية على نطاق واسع جدا في أوساط الشعب.. هذا الوضع مكّن الدولة من فرض سلطتها على الناس، ومن خلق رأي عام شعبي موحد ومتجانس ومنسجم مع السلطة.
وحتى بعد اختراع الطباعة لم يتمكن عامة الناس من الاطلاع على محتويات الكتب ومصادر المعرفة. وهذا ليس بسبب المنع أو الحجب من قبل الدولة، بل لأسباب تتعلق بظروف الحياة، وصعوبة تداول الكتب.
مع بدايات عصر النهضة ظهرت الصحف اليومية، وهذه أرخص وأسهل للتداول من الكتب.. لكنها وكما بيّنا سابقا ظلت موجهة ومنحازة.. وقد لعبت دورا مهما في تشكيل وعي جمعي أدى في النهاية إلى تكريس النزعات القومية في أوروبا، وبلورة مفهوم الدولة/ الأمة.. أما في منطقتنا فإن السلطان العثماني حرّم المطبعة، ومنع دخولها أراضي الدولة العثمانية لمدة قرنين على الأقل.
وفي العصر الحديث، ظلت الدولة (والنخب) قادرة على خلق رأي عام شعبي، والتحكم في توجيهه، لأنها ظلت ممسكة بمفاتيح الإعلام الذي تطور وصار مرئيا ومسموعا ومقروءا.
لكن الدول (والنخب) بدأت تفقد سيطرتها تدريجيا (على العلم والإعلام ومصادر المعرفة) مع انتشار الفضائيات، ووصول الإنترنت إلى كل بيت تقريبا.. وصولا إلى فقدانها السيطرة كليا مع ظهور شبكات التواصل الاجتماعي، التي أحدثت ثورة معرفية غير مسبوقة، مسلحة بسلاحين جديدين فتاكين؛ الأول: كل فرد صار بوسعه الوصول إلى مصادر المعرفة والأخبار والمعلومات.. والثاني: صار بوسع كل مواطن ليس فقط نقل الخبر إلى آخر بقاع الدنيا، بل صناعة الخبر، وصار بوسعه امتلاك قناة إعلامية تضاهي بقدراتها ومميزاتها محطات التلفزيون الرسمية التي سادت لزمن طويل.
ماذا يعني هذا كله؟ وماذا نتج عنه؟
لنلخص معطيات الوضع الراهن: العالم كله أصبح معولما ومتصلا ببعضه بشبكة إنترنت عملاقة.. كل شخص لديه هاتف ذكي أو لابتوب متصل بالإنترنت.. شبكات التواصل الاجتماعي تتيح لكل شخص بث وقول وكتابة كل ما يخطر بباله.. ولا قيود على ذلك.
لم تعد الدول قادرة على حظر معلومة، أو حجب خبر، أو إسكات صوت المعارضة.
لم تعد النخب، ورجال الدين، والمثقفون، والأيديولوجيون قادرين على احتكار المعرفة والعلم، ولا على حفظ ما كانوا يكتمونه من أسرار.
ظهرت جماعات (منظمة وغير ومنظمة)، وتيارات فكرية متباينة، ومفكرون، ومثقفون، ونشطاء من شتى الاتجاهات، أغلبهم كان ممنوعا من الكلام والتعبير في السابق، والآن لديه ما يقوله.. من يخشى الكلام في بلده (خوفا من السلطة، أو من تحريض العامة) يمكنه الانتقال إلى أي بلد غربي، وهناك سيجد منابر كثيرة بانتظاره. أو يمكنه التخفي وراء اسم مستعار وتمويه صورته وقول كل ما يريد دون خوف.
لدينا جمهور واسع (وأكثره من الشباب) متعطش للمعرفة، ولديه فضول علمي، وهم مستعدون لسماع وجهات النظر المختلفة والمتناقضة.. وهناك تنافس محموم على استقطابهم.
الساحتان الأكثر أهمية في هذه المرحلة التاريخية: شبكة فيسبوك، وقناة يوتيوب.. اللتان تضمان مليارات المشتركين.. وبدرجة أقل (ولكنها مهمة جدا) تأتي مواقع واتس آب وتويتر وانستغرام وغيرها.
هذه المنصات باتت بديلا عن نشرات الأخبار، وعن الصحف، وعن الكتب، وعن التلفزيون، وعن السينما، وعن المنشور الحزبي، والندوات الفكرية، والمحاضرات، واللقاءات السرية والعلنية، وجلسات المقاهي.. فهي تحتوي كل ذلك وأكثر، وبطريقة مشوقة وجاذبة.. وأصبحت أهم أداة لتشكيل وتوجيه الرأي العام.
على هذه المنصات يتم تداول كل شيء: علوم، فلسفة، أدب، تاريخ، أديان، عقائد، فنون، سياسة، جنس، نكات.. بطريقة يتم فيها تحطيم التابوهات، وتجاوز الممنوعات، ونبش كل ما كان محاطا بهالات القداسة.
خارج نطاق الميديا المعولمة، أي في المرحلة التي سبقتها كانت المناهج المدرسية والكتب المقررة تعرض فقط أجزاء منتقاة بعناية من التاريخ، ومقتطفات مختارة من أمهات الكتب، ومن المراجع الأساسية، ضمن عملية موجهة.. وكانت أهم الكتب غير متوفرة بسهولة، أو غالية الثمن، أو غير جاذبة للقراءة.. اليوم وبفضل منصات التواصل الاجتماعي صارت في متناول اليد، وبطريقة سهلة وممتعة، ومجانية.. هناك من يقرأها، ومن يلخصها، ومن يعرض أهم محتوياتها، ومن يكشف ما كان مخبّأ، ويوضح ما كان غامضا، وينقد ما كان مسلّما به، ويكشف وهن أو زيف ما كان يعتقد بأنه الحقيقة الكاملة، ويُنزل أي شخصية اعتبارية من سماء المثالية إلى أرض الواقع، ويحاكمها دون تحفظ.. باختصار هناك من يهز القناعات، ويشكك بالمسلّمات، وينتقد البديهيات.
ومن الطبيعي أن مستخدمي السوشال ميديا والنشطاء والمؤثرين يمثلون مختلف الاتجاهات الفكرية والفلسفية والدينية والثقافية.. ومن كافة المستويات، ومن بين ما يقولونه ستجد الغث والسمين، والمفيد والضار، ومن يدعو للتقدم، ومن يشد للخلف.. فهم يطرحون أشياء متباينة ومتناقضة ومتنوعة.. ويثيرون جدلا واسعا وعميقا حول مختلف القضايا.. وهي المرة الأولى في التاريخ تتاح مثل هذه الفرصة لطرح الأفكار بهذه الكيفية ولكافة الناس.
في هذه المرحلة سيُصاب الكثيرون بالصدمة، والمفاجأة، وربما بالإحباط، لأن الناس لا يحبون من يختلف معهم، ويكرهون من يخلخل أفكارهم، أو يزعزع سكونهم النفسي، ومن يهز قناعاتهم، ويشكك في مبادئهم، ومن يوقظهم من سباتهم، من يدفعهم لمغادرة عالمهم المريح، والذي اعتادوا عليه. لكن هذا لن يدوم طويلا.
التغيير ليس بالأمر السهل، لذا نتاج هذا المخاض الفكري (العسير، والمثير، والمتنوع، والجريء) ستظهر نتائجه بعد حين.. في الجيل القادم، والذي يليه.. وهذه عملية تغيير ثورية خطيرة ولا يملك أحد ضمانات في أي اتجاه ستسير.. وأين، ومتى ستتوقف؟ ولا نعرف على وجه اليقين أي الأفكار ستسود وتشكل وعي الجيل القادم، وأيها ستتنحى وتصبح إرثا من الماضي.
الأكيد أن التغيير قادم.
كيف أثرت حرب غزة على النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا؟
07 سبتمبر 2024