هآرتس – 38 سنة وأنا أغطي الاستخبارات والامن، خارت قوتي

حجم الخط

هآرتس – بقلم  يوسي ميلمان  

 

قبل نحو اربع سنوات ونصف كشفت عن شكوك في سلوك غير قانوني لشركة “ايروناوتكس”، وهي شركة طائرات بدون طيار في يفنه وعدد من الشخصيات الرئيسية فيها. حسب المعلومات فان عاملين في الشركة امروا بالقيام بعملية معينة رغم أنهم عرفوا أنهم بذلك يتجاوزون قانون التصدير الامني. كل ذلك من اجل تلبية رغبة دولة اجنبية. الشركة نفت ذلك. وفي اعقاب النشر اضطر نير بن موشه، المسؤول عن الامن في جهاز الامن، وشرطة اسرائيل الى فتح تحقيق. وقد فعلوا ذلك بعدم رغبة وكأنه تملكهم الشيطان. 

الشركة منذ تاسيسها قبل نحو ربع قرن من قبل آفي ليئومي، تغيرت ملكيتها عدة مرات، والآن هي بملكية “رفائيل”. ورغم أن اسمها ارتبط بصفقات سلاح اشكالية بمئات ملايين الدولارات في نيجيريا والهند والتي وصل صداها الى المحاكم، إلا أنها بقيت دائما حبيبة جهاز الامن ومن تخرجوا من هذا الجهاز. من بين العاملين السابقين فيها مثل عمري شارون وايتي اشكنازي (ابن غابي اشكنازي) ورئيس الشباك السابق يعقوب بيري كان مستشار خارجي لها، ومن بين الرؤساء فيها كان قائد سلاح الجو السابق ايتان بن الياهو وقائد سلاح البحرية السابق يديديا يعاري.

على الفور بعد ما نشرته في “معاريف” عن الشكوك ضد “ايروناوتكس” سارعت شرطة اسرائيل والمسؤول عن الامن في جهاز الامن الى الطلب من محكمة الصلح في ريشون لتسيون منع النشر عن الموضوع. القاضيان عميت مخلس ودان افنون استجابا بارادتهما للطلب وأمرا باصدار أمر منع النشر. بعد ذلك رفضا الالتماس الذي قدمته لالغاء الامر، الذي قدمه المحامي العاد مين، المستشار القانوني في جمعية هتسلحا.

أمر المنع كان شامل جدا، حتى أنه منع نشر ما نشرته في السابق. وهذا رغم أنه حتى الآن يمكن ايجاد المعلومات، بما في ذلك اسم الدولة التي وقعت الحادثة فيها، في متناول كل من يضغط على لوحة المفاتيح في مواقع وسائل الاعلام الاجنبية وفي ويكيبيديا وفي الشبكات الاجتماعية. ورغم ذلك، كان القضاة مستعدون للعمل كاضافات في هذا المسرح اللامعقول الذي يوجهه جهاز الامن والشرطة، وذلك ليس للمرة الاولى. ناهيك عن القول بأن جميع الجلسات عقدت في غرف مغلقة، وبعضها بحضور طرف واحد، بعد اخراجنا أنا ومين من قاعة المحكمة. 

وقد ساهمت في تخويف القضاة ايضا حقيقة أن الموساد تدخل في القضية وقدم رأيه، وهذا الرأي حذر من أن أي نشر سيضر بالمصالح الامنية الاسرائيلية. واذا لم يكن هذا كافيا، فان وزير الدفاع في تلك الدولة، التي تعتبر الذخر الاستراتيجي الاكثر اهمية بالنسبة لاسرائيل، زار في حينه البلاد وحذر من أن التعاون الاستخباري – العسكري والامني معها سيتضرر اذا استمر النشر. وسائل الاعلام في تلك الدولة، التي يترأسها ديكتاتور فاسد، قامت بشتمي ووصفتني بأنني عميل لدولة اخرى توجد في مواجهة عسكرية معها. قبل بضعة ايام قدمت نيابة الدولة لوائح اتهام ضد “ايروناوكس” وثلاث شخصيات رفيعة فيها، وبهذا صادقت على صحة التقرير الاصلي لي من آب 2017. ولكن مع كل الرضى لدي بأنني ساعدت في مكافحة الاشتباه بالفساد وأنني ساهمت ايضا في الديمقراطية في اسرائيل، فان خيبة أملي من سلوك جهاز الامن وجهاز القضاء فقط تزايدت عند تغطية هذه القضية.

أنا صحافي منذ 47 سنة، منها 38 سنة كنت مختص في تغطية شؤون الاستخبارات والامن. وفي جزء كبير من هذه الفترة عملت الى جانب الكتابة في المجال القانوني في عشرات محاولات رفع اوامر منع النشر عن قضايا امنية. في اواخر سنوات حياتي، أنا ادرك بأن الوضع فقط آخذ في التدهور. جهاز المناعة للقضاة وقدرته على مواجهة جهاز الامن فقط آخذة في الضعف. 

أنا راكمت تجربة من الالتماسات التي قدمتها لجميع الهيئات القضائية في اسرائيل مثل محكمة الصلح والمحكمة المركزية والمحكمة العليا. وقد مثلت امام قضاة “ليبراليين”، من بينهم اهارون براك وايلا روكتسيا ومني مزوز ويورام دنتسغر وعدنا اربيل واوري شاهم واستر حيوت، وأمام قضاة محافظين من بينهم دافيد مينتس ونوعام سولبرغ واليكس شتاين. في كل ما يتعلق بشؤون الامن لا يوجد بينهم أي فروقات. جميعهم يقفون بصمت عند سماع كلمة “أمن”. وجميعهم قضاة لجهاز الامن. هم مستعدون لأن يطهروا تقريبا أي ظلم يرتكبه جهاز الامن وأن يبعدوا بسرعة، بدون نقاش معمق ومن خلال اظهار مزاج قضائي مستخف ومتغطرس، أي استئناف أو طلب لوسائل اعلام أو محامين أو نشطاء حقوق انسان أو أي شخص يحب العدالة. 

في السنوات الاخيرة وافق القضاة وبرروا قرارات وزارة الدفاع والموساد تسليح زعماء يخرقون حقوق الانسان وديكتاتورات في دول مثل اذربيجان والفلبين وبورما وجنوب السودان والسعودية، ومنع نشر وثائق من ارشيف الدولة عن مذابح واغتصاب وطرد في حرب التحرير، وعن قتل اسرى في الحروب أو عن عمليات استخبارية شارك فيها تجار مخدرات. بالطبع كل ذلك تم باسم الامن الوطني. ولكن في الحقيقة هذا الاسم يتم حمله عبثا من اجل التغطية على اخفاقات أو من اجل اخفاء افعال غير قانونية، يخجل منها جهاز الامن. 

الـ “ديب ستيت” أو الدولة العميقة، أي الدولة المخبأة تحت الارض، هو مفهوم من مجال العلوم السياسية. هذا المفهوم يصف وضع فيه مجموعة سرية تتكون من شبكات خفية للقوى، تعمل بصورة مستقلة خارج القيادة السياسية المنتخبة في الدولة وتحاول الدفع قدما بأجندتها أو اهدافها. 

هذا المفهوم برز وحصل على الشرعية في عهد ولاية دونالد ترامب في امريكا. اوساط اليمين المتطرف هناك وايضا في اسرائيل بدأوا في استخدامه، وأن ينشروا عن طريقه نظريات تآمرية مدحوضة من اجل ضرب دوائر اليسار والليبرالية واضعاف القضاء والاعلام والمس بالديمقراطية.

ولكن في اسرائيل هذا المفهوم المشكوك فيه يناسب جهاز الامن الذي يعمل مثل دولة داخل دولة، ويعمل تقريبا كل ما يخطر بباله بدون رقابة برلمانية ناجعة، وبتعاون وثيق ودعم من جهاز القضاء. حركة الكماشة المندمجة هذه تنهك القلائل الذين ما زالوا مستعدين للنضال من اجل العدالة وحقوق الانسان والاخلاق وضد المظالم. ايضا أنا اشعر بأن قوتي انهكت وأنني احارب مثل دون كيشوت ضد طواحين الهواء. لقد نفدت شهيتي للعودة وتقديم التماسات في المحاكم. ربما سأحاول مرة اخرى.