رسالة من سجن جلبوع

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

أعد مجموعة من أسرى سجن جلبوع دراسة ميدانية عن الإهمال الطبي المتعمد والذي تسبب باستشهاد عدد كبير منهم، ومسؤولية مختلف الأطراف عن هذه المأساة، أشرف على الدراسة الأسير ياسر أبو بكر، برعاية مركز دراسات الحرية للأسرى، وقد كان لي شرف تحرير ومراجعة الدراسة، لذا سأستعرض ملخصها وأهم ما جاء فيها:
تهدف الدراسة إلى تسليط الضوء على معاناة الأسرى في سجون الاحتلال، والإهمال الطبي والتقصير بحقهم. والتعرف على وجهات نظر الأسرى في مستوى التقصير في حقهم، سواءً من ناحية الإهمال الطبي أو التقصير الذاتي. وقد أُجريت الدراسة على عينة من الأسرى من فتح وحماس والجبهة الشعبية، من سجن جلبوع الذي يضم 238 أسيرا. وأداة الدراسة بشكل أساسي هي استبانة، مكونة من 50 فقرة وزعت على ثلاثة مجالات: الإهمال الطبي، التقصير الذاتي للأسرى، والتقصير الخارجي بحق الأسرى.
تضمنت الاستبانة أسئلة مباشرة، وقد جرى تحليل البيانات وفق الأسس العلمية المعتمدة، وكانت الإجابات في منتهى الشجاعة والصراحة والوضوح، وفيها قدر كبير من النقد الذاتي.. وكانت الإجابات متشابهة إلى حد كبير، وأحياناً متطابقة.. فمثلاً يقول معظم الأسرى:
أخجل من نفسي بسبب تقصيري عند استشهاد أسير.. أشعر أن كل ما نقوله شعارات وأقوال دون أفعال.. أغضب بشدة، وأفكر بالانتقام عند استشهاد أسير.. مقولة أدواتنا محدودة في الصراع مع العدو في السجن حجة للتخاذل.. ترهل الحركة الأسيرة ومصالح المنتفعين الشخصية طغت على مشهد استشهاد الأسير.
وفي مجال نقد من هم خارج السجون (السلطة، الفصائل، المنظمات الحقوقية، الجماهير، وأهالي الأسرى أنفسهم) وردت انتقادات قاسية، لكنها موضوعية ومحقة.. فمثلاً أجاب أغلب الأسرى:
هناك دائماً أدوات نغفلها كالأدوات القانونية والإعلامية.. نحن لا نعرف كيف نجعل الاحتلال يدفع ثمن أفعاله الإجرامية ويتحمل مسؤوليتها.. الإهمال الطبي ما كان ليكون لولا شعور الاحتلال أنه لن يحاسبه أحد، فلذلك هو تمادى ويتمادى كل يوم.. مشهد التضامن مع الأسرى الشهداء في الخارج لا يرقى إلى مستوى الحدث.. يتصف تعامل السلطة الفلسطينية والفصائل الوطنية مع جريمة احتجاز جثامين الشهداء باللامبالاة.. السلطة الوطنية تتعامل مع الأسرى فقط كأرقام.. تفتقد الجهات الخارجية (السلطة والفصائل والمجتمع المدني) أي خطة لإطلاق سراح الأسرى والجثامين، أو لفضح ومعاقبة إسرائيل على جرائمها بحق الأسرى.. الشارع الفلسطيني هو من يتحمل المسؤولية الأكبر عن إهمال الأسرى عموماً والأسرى المرضى خصوصاً.. إهمال السلطة والفصائل والجماهير للأسرى يوازي جريمة الإهمال الطبي من قبل إدارة السجون..
‏لقد عبر الأسرى بمستوى مرتفع جداً عن عدم رضاهم عن الجهود الخارجية بحقهم، واعتبروا أنه الأكثر تقصيراً، وهم بذلك يحمّلون الجهات الخارجية المسؤولية الكبرى عن التقصير في حياتهم، لإدراكهم أن خيارات الجهات الخارجية أوسع وأكبر ويمكن لها أن تحقق لهم الحرية، أو العيش الكريم في الأسر، خاصة إذا ما تم تنظيم هذه الجهود وتركيزها نحو هدف تحرير الأسرى والدفاع عن حقوقهم الإنسانية.
وذلك لم يمنعهم أن يعبروا عن عدم رضاهم عن أنفسهم وذاتهم في الدفاع عن حقوقهم، رغم محدودية أدواتهم وقدراتهم على التحرك داخل السجون، في ظل القيود التي تحيط بهم في كل مكان. لكنهم يدركون أنه وبرغم القيد والسجن هم أقوياء إن وحّدوا أنفسهم في إطار خطة واضحة. وبهدف العيش بكرامة داخل السجن والضغط على الخارج وعلى العدو للتعامل معهم كأسرى حرب، ولهم الحق بالحرية، وعدم الانشغال في أمور داخلية جانبية.
أما الإهمال الطبي المقصود من العدو فهي سياسة عامة لإسرائيل، فهي أصلاً دولة احتلال، ودولة عدوان شامل على الفلسطينيين عموماً، وعلى الأسرى خصوصاً، وهذا الإهمال واضح، بل إنه تجاوز كل قواعد القانون الدولي والإنساني، وحقوق الإنسان، ومعاهدة جنيف، وهذه السياسة نتيجة غياب المحاسبة الدولية والمحاسبة من الجهات الرسمية الفلسطينية، والأسرى أنفسهم.
لقد كان الأسرى في سجون الاحتلال من فصائل فتح وحماس والجبهة الشعبية حادين وجادين في انتقادهم وعدم رضاهم، وفي جلدهم لأنفسهم ولغيرهم، ومستوى الدرجة الكلية للتقصير كان مرتفعاً.. إلا أن أسرى حركة فتح كانوا أكثر حدة وأكثر انتقاداً وجلداً للذات ولغيرهم لمستوى التقصير بحياة الأسرى في سجون الاحتلال.
في مقدمة الدراسة كتب الأسير ياسر أبو بكر: «مع استشهاد أي أسير في سجون الاحتلال فإنه سرعان ما يتصدر واجهة الأحداث، مذكِّراً بموضوع الإهمال الطبي بحق الأسرى، هذا الإهمال الذي تسبب بوفاة عدد كبير من الأسرى.. ثم تتعالى الأصوات منددة بالتقصير والإهمال المقصود والمتعمد. وتبدأ مجموعة من ردود الأفعال والخطوات الاحتجاجية داخل وخارج السجون، والتي أصبحت في السنوات الأخيرة ردات فعل خجولة، أو مجرد تأدية واجب؛ فما هي إلا أيام معدودات ثم تعود الأمور إلى سابق عهدها، وكان شيئاً لم يكن، وبانتظار شهيد آخر.
 وفي خضم كل ذلك تتعالى صرخات الأسرى، ويبدأ مسلسل تحميل المسؤوليات عن التقصير بحق أسرى الحرية، والحديث عن حقهم في حياة كريمة داخل السجون، وعن معاناتهم وأوضاعهم الصعبة، وتنكيل إدارات السجون بهم، والتضييق عليهم، ومحاولة المساس بحياتهم.
فإدارة السجون تتعمد اتخاذ كل الإجراءات القمعية وبشكل ممنهج ومقصود ضد الأسرى، في ظل غياب أي نوع من الانتقادات السياسية أو الحقوقية، وغياب أي نوع من المحاسبة والمساءلة عن انتهاك الإدارة لحقوق الأسرى التي يكفلها القانون الدولي.
وحتى الخطوات الاحتجاجية التي يتخذها الأسرى أنفسهم، أو الجهات الخارجية لا تكاد ترقى لمستوى الحدث، ولا تكاد تؤثر كما يجب.
ولا شك أن الاحتلال هو المسؤول الأول عن التقصير والإهمال الطبي، وعن كل مآسي وآلام الشعب الفلسطيني، بما فيها حياة الأسرى في سجونه.. إلا أن هذا لا ينفي وجود تقصير من قبل السلطة الوطنية الفلسطينية، والمنظمات الحقوقية في مواجهة ما يقوم به الاحتلال ضد الأسرى، وأيضا هناك تقصير في الخطوات الاحتجاجية الشعبية، وآليات الضغط على الاحتلال، وهذا التقصير يشمل كل الأطراف المعنية بحقوق الأسرى، سواء الجهات الرسمية أو الشعبية أو المنظمات الدولية والمحلية، وحتى الأسرى أنفسهم».
وقبل أن نقول تحية إجلال وإكبار لكل أسرانا الأبطال.. لنتذكر واجبنا الوطني تجاههم.