تحوّل عميق في الشرق الأوسط

د دورون مصا.jpeg
حجم الخط

بقلم: دورون متسا*

 

 



يتوجه الانتباه العام، مؤخراً، إلى بعض الظواهر التي تحدث على الأرض بين البحر المتوسط ونهر الأردن: أحجام الجريمة في المجتمع العربي، وغياب الدولة في البلدات البدوية في النقب ومحيطها، والفوضى في السلطة الفلسطينية (خصوصاً في جنين والخليل)، و"الإرهاب" ضد اليهود في الضفة الغربية والقدس، وكذلك عنف اليهود حيال الفلسطينيين. كل ظاهرة من هذه الظواهر يجري تحليلها بصورة منفصلة لأنها، ظاهرياً، تجري في مجالات جيو - إستراتيجية مختلفة، لكن ذلك خطأ بصري. يوجد بين هذه الظواهر قاسم مشترك يدل على عملية مهمة تجري في الشرق الأوسط كله.
في العقد ونصف العقد الأخيرين، جرت بلورة المنطقة من خلال نموذج "نفعي اقتصادي"، تجلت صيغته الرسمية في "صفقة القرن"، التي قادها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. لكن حتى قبل نشرها، كان الواقع الشرق الأوسطي يسير وفق الروح التي تبلورت في سنة 2010، في ظل اضطرابات "الربيع العربي" الذي حطم النظام السياسي القديم، وأيضاً برعاية التوجه العام العالمي نحو جعل الفكر الاقتصادي هو الذي يدفع بقيم الحريات السياسية للثورة الفرنسية.
توجد في الأساس فكرة براغماتية، هي السعي لتحقيق الاستقرار من خلال العمل على الدفع قدماً بنوعية الحياة، وفي الأساس رفع مستوى حياة سكان الشرق الأوسط. والمقصود نظرة رأت أنه من الأفضل الاهتمام بالحاضر على حساب الدفع قدماً برؤى بعيدة المدى تعتمد على هوية أيديولوجية مثل تلك التي عرفتها المنطقة في بداية القرن العشرين من خلال اتفاقية سايكس – بيكو البريطانية الفرنسية، العائدة إلى سنة 1916.
بعد مرور 100 عام، تحول النموذج النفعي الاقتصادي إلى محور مركزي جرت من خلاله بلورة السياسة الإقليمية. وعلى أساسه أُبرمت "اتفاقيات أبراهام" بين إسرائيل والدول الغنية في الشرق الأوسط، وتبلور نموذج الحكم الذاتي في الضفة الغربية، والذي اعتمد على صفقة اقتصادية – سياسية بين النخبة في القدس ورام الله، وجرى الدفع بعملية ضخمة للدمج الاقتصادي للجمهور العربي الذي على أساسه قام منصور عباس بمشروعه السياسي، وعلى هامشه حاولت إسرائيل استنساخ النموذج مع "حماس" في غزة (مال مقابل هدوء).
النموذج النفعي الاقتصادي أعطى ثماره. ففي العقد الأخير تمتعت إسرائيل باستقرار أمني نسبي سمح لاقتصادها بالنمو أكثر وحسّن النموذج. لكن إلى جانب هذه الخطوات ظهرت أيضاً اتجاهات معاكسة أشارت إلى السقف الزجاجي لهذا النموذج: عملية "حارس الأسوار"، في أيار 2021 كانت المؤشر الأول إلى الرد المضاد من طرف مؤيدي نموذج الهوية القومية في الشرق الأوسط. وهو ما ظهر خلال الأزمة الاقتصادية التي رافقت وباء "كورونا"، وبسبب ضعف الأطراف السياسية والمؤسساتية.
الأطراف التي شعرت بأنها مهددة من الفكرة الاقتصادية، والتي رأت أنها تبعد الأيديولوجيا، أو التي كان من الصعب عليها المشاركة في الاحتفال الاقتصادي - بدأت محاولتها في تحدّيه. المقصود جهات موجودة على أطراف المجتمع، سواء العربي - الفلسطيني أو اليهودي: مجرمون جنائيون، إرهابيون ومطلوبون، شباب لا مستقبل لهم، مهمَّشون اقتصادياً. كل هؤلاء بدؤوا يقومون بردّ مضاد من خلال ممارسات متعددة أُعطيت تعريفات مختلفة: "إرهاب"،"جريمة"،"عنف"،"أعمال شغب". القاسم المشترك بينها كلها هو المحاولة المستمرة لزعزعة أسس النظام الاقتصادي القائم بين النخب التي تتماهى معه.
في نظر هذا التحليل، يمكن رؤية علاقة خفية بين ظاهرة الجريمة في المجتمع العربي والبدوي (هؤلاء الذين يحاربون باسم الدفاع عن التقاليد، وضد التحديث المنسوج من داخل النموذج النفعي - الاقتصادي)، وبين "الفوضويين" في السلطة الفلسطينية الموجودين على هامش العملية الاقتصادية، وبين الصعوبة التي يواجهها جزء من الجيل الشاب العربي الفلسطيني في الاندماج فيها، بالإضافة إلى أطراف في المستوطنات اليهودية في "المناطق" التي يشكل النموذج الاقتصادي، بالنسبة إليها، عائقاً في وجه تحقيق رؤاها التقليدية في احتلال الحرم القدسي. هؤلاء رأوا في النموذج عنصراً يخفف من أفكار الضم وتوسيع المستوطنات والصراع على أراضي المنطقة (ج)، لمصلحة التكيف مع نموذج حياة بورجوازية في الضفة الغربية.
ما يبدو أنه مجموعة عشوائية من النقاط يكشف عملية عميقة مهمة في الصراع القوي الذي يجري في الشرق الأوسط بين نموذجين: النموذج النفعي الاقتصادي الذي يمكن أن نسميه "أهل الثروة"، وبين نموذج الهوية القومية - الأيديولوجية أو معسكر "أهل الشرف".
هذا هو اللقاء الأخير بين "الشرق الأوسط الجديد" وبين "الشرق الأوسط القديم"، بين سايكس- بيكو وبين مرحلة "صفقة القرن" للعصر ما بعد الحداثي. يحدث اللقاء بقوة على طول الخط هنا وهناك، وداخل كل هذه المجموعات التي تبدو منفردة، وتشكّل المنطقة كلها.

عن "يديعوت"