فلسطين والأولويات البيئية

د.عقل أبو قرع.jpg
حجم الخط

بقلم: عقل أبو قرع

لا أحد يجادل هذه الأيام في حقيقة أن العالم يشهد تغيرات مناخية بيئية عالمية مقلقة، تتمثل في ارتفاع حرارة الأرض ومياه المحيطات بسبب ذوبان الجليد وبالتالي زيادة منسوب المياه، وقلة الأمطار، وزيادة شدة الأعاصير والفيضانات والتصحر والحرائق والتلوث وما إلى ذلك من تداعيات بيئية بعيدة المدى على العالم والمنطقة، وبالطبع نحن في فلسطين لن نكون بالبعيدين عن ذلك، آجلا أو عاجلا.   
ودون جدال كذلك، أن هذه التغيرات تحدث بسبب تغاضي دول عديدة ومنها الدول الصناعية الكبرى عن إعطاء الأولوية للبيئة وحمايتها، وخاصة خلال عملية النمو الاقتصادي الكبير والمتواصل، حيث بدأت دول كثيرة تلمس الآثار الكارثية على البيئة، فنفايات المصانع ودخانها والمخلفات العشوائية للبنايات أدت إلى تلوث الهواء والمياه والتربة، حتى بات لا يمكن السير في شوارع في بعض المدن مثل بكين ودلهي دون كمامات، أو شرب المياه إلا معبأة أو باستخدام فلتر، وملاحظة الآثار البيئية والصحية الوخيمة التي أحدثها ويحدثها الاستخدام المكثف للمواد الكيميائية في الزراعة من مبيدات وأسمدة وبلاستيك، تنتشر منها أمراض السرطان والتشوهات الخلقية بشكل متزايد.
وتنعكس هذه التغيرات البيئية هذه الأيام، على شكل ظواهر متطرفة أو على الأقل ظواهر غير اعتيادية في حدتها وتوقيتها وصعوبة التعامل معها، وربما نكون قد شهدنا مثل ظواهر كهذه في الماضي ولكن ليست بنفس الشدة والتكرار، والأهم محاولة العلماء والباحثين والمختصين ربطها مع ظواهر مناخية بيئية ساهم الإنسان بشكل مباشر وغير مباشر في الوصول إليها، ومن أهم هذه الظواهر ما بات يعرف بظاهرة «التغير المناخي»، أو «البيت الزجاجي» وانعكاساتها من خلال ارتفاع درجة الحرارة، وقلة الأمطار والتصحر، والتي ترتبط بشكل مباشر بالتلوث وبالأخص تلوث الهواء في الجو بما تبثه نشاطات الإنسان إلى طبقات الجو، مسببة تراكما لمواد كيميائية لم نشهدها من قبل.
وفي بلادنا، فإن الحفاظ على البيئة من المفترض أن يكون أولوية وطنية في خطط التنمية الفلسطينية البشرية والاقتصادية، لأن من سمات البيئة الفلسطينية أن المصادر الطبيعية، من مياه وارض وحيز هي مصادر محدودة، وان المساحة الجغرافية ضيقة وتضيق باستمرار، وان كثافة البشر في تلك البقعة مرتفعة وربما من أعلى النسب في العالم وخاصة في قطاع غزة، وان ازدياد البشر وبالتالي نشاطات البشر وما ينتج عن ذلك من نفايات وبأنواعها في تصاعد مستمر، وما لذلك من تداعيات بيئية، أن لم نلمس آثارها، الآن، فسيكون بعد فترة.
وما زلنا نرى النفايات في الشوارع، وما زلنا نستخدم المبيدات الكيميائية بشكل مكثف وفي أحيان بشكل غير آمن أو سليم، وما زالت مياه المجاري وليس فقط المياه العادمة المكررة، تصب في بحر غزة، وأصبحت مياه غزة الجوفية مالحة وربما ملوثة، وما زالت التقارير تشير إلى أن اكثر من 95% من المياه في غزة هي مياه ملوثة، وبالإضافة إلى ذلك ما زالت المستوطنات الاسرائيلية تساهم بشكل أو بآخر في تلويث وتشويه البيئة الفلسطينية، حيث ما زلنا نسمع عن مجاري المستوطنات والمياه العادمة تصب في قرى سلفيت وبيت لحم والخليل ورام الله، وما لذلك من تداعيات قصيرة وبعيدة المدى متواصلة على البيئة.
وفي ظل هذا الواقع البيئي، وبالنظر إلى الأولويات البيئية العربية وبالتحديد الفلسطينية، فإننا نحتاج إلى تطبيق حازم للقوانين الفلسطينية المتعلقة بحماية البيئة، سواء أكان قانون البيئة الفلسطيني لعام 1999، أو قانون الصحة العامة المتعلق بالبيئة، أو قانون حماية المستهلك الفلسطيني، بشكل يعطي الغرض من إصدار مثل قوانين كهذه، وبأن تتم محاسبة وبشكل رادع من يلوث البيئة بالنفايات الصلبة، أو بالمياه العادمة، أو من يلوث الهواء بالغازات والمواد الكيميائية، أو يلوث المياه الجوفية بالأسمدة، أو يلوث المنتجات الزراعية بالمبيدات، وما إلى ذلك، وبحيث تطبق القوانين بأيدي الشرطة أو سلطة البيئة أو البلديات والهيئات المحلية.
ونحتاج إلى تكثيف جهود كافة العاملين في مجال حماية البيئة، سواء أكانوا من  الجهات الرسمية أو غير الرسمية في بلادنا، وكذلك الجهات العربية العاملة في مجال حماية البيئة، والمنظمات الدولية المختصة، من أجل اتخاذ إجراءات عملية للحد من احتمال وقوع كارثة بيئية وصحية بعيدة المدى، وبالأخص في قطاع غزة وذلك نتيجة الدمار الهائل للبنية التحتية وتلوث المياه والطعام والهواء، واستنزاف الموارد الطبيعية المحدودة في القطاع، حيث تشير تقارير متعددة إلى أن اكثر من 95% من المياه في غزة لا تصلح للاستخدام البشري حسب المعايير الدولية.
وهناك ضرورة ماسة لخطة عمل بيئية وطنية تعتمد على الحقائق لتحديد متطلبات التدخل، وهذا يعني إجراء الفحوصات لعينات بيئية من خلال مختبرات مؤهلة سواء أكانت تتبع جهات رسمية أو غير رسمية، ومن خلال دراسات تقييم علمي وموضوعي للأثر البيئي لمشاريع أو لأعمال يمكن أن تؤثر على البيئة، ومن خلال تفعيل المراقبة والمتابعة لقضايا بيئية، ومن خلال تفعيل العلاقة والتواصل مع المواطن الفلسطيني الذي هو الأساس في العمل من اجل حماية بيئته.
والمطلوب النظر إلى البيئة الفلسطينية بشكل أوسع، من خلال التعاون في مجال البيئة وحل قضاياها مع المحيط العربي الذي نحيا فيه، حيث إن مشاكل البيئة لا تعرف الحدود، والاستفادة كذلك من خبرات المنطقة، سواء في مجال المياه أو الهواء أو التصحر والإنتاج الزراعي أو التخلص من النفايات، وهذا يعني وجود علاقات تعاون عربية ودولية، والاستفادة من البرامج الدولية وتأطيرها بشكل مبرمج لحماية البيئة الفلسطينية.
ومن ضمن الأولويات البيئية عندنا، الحاجة إلى بناء ثقافة حماية البيئة وبشكل مستدام، وهذا يتطلب التركيز على تنمية الوعي البيئي في المدارس والجامعات وفي المصانع وورشات العمل وفي الحقول الزراعية، ويتطلب الاستثمار وبشكل عملي في التعليم البيئي وخاصة في الجامعات، بشكل يلائم احتياجات البيئة الفلسطينية، والتعاون مع مراكز الأبحاث البيئية في جامعاتنا وفي محيطنا العربي من اجل إيجاد حلول لمشاكل البيئة المحلية، وكذلك الاستخدام الأكثر للإعلام وبأشكاله في مجال البيئة، والأهم ترسيخ مفاهيم البيئة وأهمية حمايتها وفهمها كأولوية وطنية، ليس فقط تعتمد عليها أي خطة تنمية بشرية أو اقتصادية، ولكن لا يمكن العيش حياة سليمة عادية في هذه البيئة إذا كانت ملوثة أو غير محمية من التلوث.
والمطلوب كذلك التوجه وبشكل مدروس وعملي نحو مصادر الطاقة الخضراء، حيث إن هذه الطاقة الخضراء أو الطاقة المتجددة، أي التي لا تنضب، والنظيفة التي لا تلوث البيئة من هواء ومياه وارض وبالتالي الإنسان، والاقتصادية، أي التي لا تكلف كثيرا، هي البديل للطاقة الحالية، التي تعتمد على النفط ومشتقاته أو على الفحم، والتي في العادة تتناقص ومن ثم تنضب مع الزمن، والتي هي طاقة غير نظيفة، أي لا تؤثر عكسيا على البيئة المحيطة بها، حيث لا يمكن أن تلوث الهواء، ومصادر المياه والطعام، حيث إن هناك العديد من الدول التي قامت باعتماد خطط وتبنت استراتيجيات تهدف إلى الاستغناء عن مصادر الطاقة التقليدية من فحم ونفط، والانتقال التدريجي إلى استخدام تكنولوجيا الطاقة ومصادر الطاقة النظيفة أو المتجددة مثل الطاقة الناتجة عن الشمس أو من الرياح، وهذا الذي من المفترض أن نبدأ بالعمل عليه من خلال القوانين والسياسات والحوافز والتطبيق العملي.
والأولويات البيئية لنا من المفترض أن تتم ترجمتها في خطة عملية قابلة للتطبيق، وبالأخص في ظل مواصلة تفشي المتحور الجديد من فيروس كورونا  بشكل واسع هذه الأيام، ومع استمرار عبث الإنسان بالنظام البيئي، ومواصلة استعمال مصادر الطاقة التقليدية غير المتجددة، وكذلك استعمال المواد الكيميائية من مبيدات وأسمدة، التي هي الملوث الأكبر للبيئة في العالم، وبالتالي الخطر الأكبر على ما يحويه من التنوع البيولوجي وعلى تصاعد حدة الحرائق والأعاصير والفيضانات وانتشار الأمراض، وما لذلك من انعكاسات على مختلف بلدان العالم، والمنطقة العربية، والتي آجلا أو عاجلا لن تكون بالبعيدة عنا.