” سكان ابزيق في شمال غور الاردن تعودوا على أنه في كل مرة يتدرب فيها الجيش في المنطقة يتم طردهم منها ويكون بامكانهم العودة اليها فقط في اليوم التالي. ولكن في هذا الاسبوع عندما عادوا الى المكان اكتشفوا أن الجرافات العسكرية دمرت حقول القمح والاعلاف التي زرعوها وسوتها بالارض. وكل ذلك من اجل اقامة مناطق تدريب للدبابات “.
الوقت كان وقت الغروب، الظلام كان على وشك الهبوط وتغطية مشهد الغور، وفي لحظة واحدة توحد الدخان الابيض الذي تصاعد من الطابون مع الدخان الاسود الذي تصاعد من الجرافة. هذه كانت خيبة امل نموذجية. فبين الطابون والجرافة العسكرية، التي غرفة القيادة فيها محاطة بالقضبان، كانت تفصل بضع عشرات الامتار. في الطابون كان يخبز الخبز، في حين أن الجرافة دمرت حقول القمح. كل ذلك توحد في صورة سريالية: جلس هناك فلاحون فقراء، الذين يعيشون في ظروف العصور الوسطى، بدون كهرباء وبدون ماء في برد الغور، ويرسلون نظراتهم الحزينة نحو الآلة المدمرة التي داست في هذا الصباح حقولهم من اجل تدميرها. في ظروف لا تصدق حرثوا وزرعوا.
مرة كل بضعة اسابيع يأتي الجيش ويدمر لهم الخيام ويصادر التراكتورات والسيارات، ويدمر الالواح الشمسية وخزانات المياه ويطردهم مدة يوم أو يومين الى حين انتهاء التدريب في حقولهم. هم تعودوا على ذلك. وما هو الخيار الموجود لديهم. هنا لا توجد أي مقاومة، هؤلاء هم اضعف الضعفاء، الذين كل هدفهم هو استخراج الخبز من الارض الجيدة هنا. ولكن ما حدث في يوم الاثنين الماضي لم يسبق له مثيل بالنسبة لهم. مئات الدونمات سحقت تحت سلاسل جرافات جيش التدمير الاسرائيلي، حقول انتاجية تحولت الى حقول دبابات، الاتلام تمت تسويتها والارض الخصبة تحولت الى ساحة تدريب. 500 دونم واكثر من حقول الحمرا التي حرثت وزرعت وبوادر الزرع التي ظهرت واخضرت اصبحت دمار شامل. ارض الحمرا تكدست لتصبح منحدرات للدبابات.
كان من الصعب رؤية المشهد. الجرافة سارت ذهابا وايابا، لم تضيع أي تلم، مدمرة كل بوادر المحاصيل والاعلاف، تسير وتدمر، تسير وتسحق. السائق يختفي خلف قضبان الحديد المتشابكة. لا تتم رؤيته. ماذا يخطر بباله وهو ينفذ المهمة المشينة والحقيرة؟ بماذا يفكر وهو يدمر؟ هل هو يحب هذه الارض التي يدمرها؟ هذه الارض الجميلة التي يخربها والتي سكانها يقومون بفلاحة هذه الارض منذ اجيال؟ مشكوك فيه اذا كانت هذه الاسئلة قد خطرت بباله. احد الضباط احضر ابنه، يقولون إنه احتفل هنا بعيد ميلاده. الجنود لم يكونوا عدائيين تجاه السكان الذين تجرأوا على الاقتراب في ظل حمايتنا نحو الدبابات. فقط عندما رفع احد الفلاحين بتردد يده واشار باشارة النصر امام الجنود، أمره احدهم بالابتعاد. حتى أن الجنود لم يحاولوا منع التصوير. ربما أنهم لا يخجلون من افعالهم. بعضهم يعتمرون قبعات كبيرة، شخص أو اثنين منهم يتحدثون العربية. هم ليسوا جنود من لواء “كفير” أو حرس الحدود ينكلون بالفلسطينيين. هم جنود مدرعات وهندسة وجدوا انفسهم هنا، جاءوا للتدريب قبيل حروب الامس التي لن تحدث كما يبدو في أي يوم، وهم يفعلون ذلك في المناطق التي تم أمرهم بتسويتها. ولكن بعد ذلك شاهدوا أن القمح ينبت فيها. ما العمل. سنقوم باقتلاعه وتدميره. ربما سينبت مرة اخرى. ربما، مثلما كتبت في سياق آخر دوريت تسميرت في قصيدتها الجميلة التي غنتها حافه البرشتاين: “هذا ليس نفس الغور، هذا ليس نفس البيت/ أنتم غير موجودين ولن تستطيعوا العودة/ الطريق ضيقة مع جادة واسعة وفي السماء يحلق نسر/ لكن القمح ينبت مرة اخرى”.
في السماء يوجد نسر، لكن مشكوك فيه اذا كان القمح سينبت هنا مرة اخرى. في هذه الاثناء السلاسل الحديدية تمزق الارض البنية. صهريج مياه مسحوق ملقى على جانب الحقول. اعمدة الدخان التي تتصاعد من الجرافة كلما تقدمت تبدو مثل علم اسود يلوح فوقها. اسود من السواد. ما الذي سيقوله هؤلاء الجنود لعائلاتهم عندما يعودون الى البيت من المهمة؟ هل سيقولون بأنه مر عليهم يوم جيد وأنهم منحوا الدولة وساهموا في الامن عندما دمروا المحاصيل؟.
مثلما في الافلام
ابزيق، التي تقع في شمال غور الاردن، هي تجمع رعاة يعيشون هنا منذ سنوات قرب الجدار الامني. طريق ترابية طويلة ومتعرجة تصعد الى هنا، لكن لا يوجد لمعظم السكان سيارات لأن الادارة المدنية تقوم بمصادرتها. ايضا كل المعدات الزراعية تتم مصادرتها هنا. الطريق مدهشة بشكل خاص في هذا الفصل من السنة. الحقول المحروثة اصبحت مزينة بالبقع الخضراء. اللون البني للارض، المائل للاحمرار، واللون الاخضر لبوادر النباتات قويان. في الطريق الى القرية يمكن رؤية الدمار: حقول صعدت عليها ودمرتها الدبابات بسلاسلها. كلما اقتربنا من خيمة ابناء عائلة تركمان، المشهد يصبح اقسى والدمار يصبح اكثر. هنا لم تعد حقول مرت عليها الدبابات. هنا الدبابات تكوم الارض المزروعة من اجل بناء خنادق للدبابات التي ستأتي في الليل. الجرافة تسوي، كفة الجرافة تكوم وتتكون عندنا كومة ستستخدم كساتر للدبابة في التدريب الليلي. في حدود غزة الجيش الاسرائيلي يسمم الحقول من الجو، وفي حدود الغور هو يسحقها.
المناخ رعوي، هو وحشي مثلما هو رعوي. السكان لا تخطر ببالهم المقاومة. يجلسون على الكراسي البلاستيكية على مدخل الخيام التي لم تدمر بعد ويشربون الشاي المحلى والرائع وينظرون بصمت لحقولهم الآخذة في الاختفاء. للحظة يبدو أنه يصور هنا فيلم. الاغنام بالضبط تعود من المرعى. 800 رأس من الاغنام توجد لهم هنا والحقول استهدفت بالاساس انبات الاعلاف للمواشي. الى جانب الفلاحين توجد بقايا دمار من عملية التدمير السابقة، والاصعب من ذلك الالواح الشمسية التي تم تحطيمها، التي تشكل مصدر الكهرباء الوحيد لهم هنا. حيث لا توجد هنا مياه ولا كهرباء. وماذا بعد. هم سيبقون هنا والقمح ربما سينبت مرة اخرى. من الصعب التفكير بتسليم اشد بالقدر من منظر هؤلاء الفلاحين.
كل ذلك حدث في يوم الاثنين الماضي. كل شيء بدأ قبل ذلك بكثير. هنا تعيش عائلة محمد تركمان (58 سنة) وعائلة ابن عمه عادل تركمان (46 سنة). الاشخاص الثمانية الذين يتواجدون هنا تسعة اشهر في السنة، من منتصف ايار وحتى منتصف آب، يذهبون مع الاغنام الى منطقة جنين لأنه هنا لا يبقى مرعى ليرعوا فيه. الاراضي هي اراضي خاصة تعود لعائلات من طوباس. عائلة تركمان تفلحها. هذه منطقة ج واسرائيل لا تسمح لهم ببناء أي شيء عليها.
في 5 كانون الاول الماضي مرة اخرى وزعت الادارة المدنية هنا اوامر ابعاد. “تحذير بشأن واجب اخلاء مؤقت من منطقة مغلقة”. في الاشهر الاخيرة طلب منهم سبع مرات اخلاء الخيام من اجل تمكين الجيش الاسرائيلي من اجراء التدريب في المنطقة. الاجراء ثابت: هم يجب عليهم الابتعاد عن هنا في الثامنة صباحا ويمكنهم العودة في الثالثة فجرا لليوم التالي. عائلات، اطفال، اغنام، سيرا على الاقدام في الطقس البارد، يجدون لهم مأوى في خيام اقربائهم في المنطقة. نحو 60 شخص يعيشون في القرية وجميعهم يجب عليهم أن يغادروا.
في المرة الاخيرة طلبت منهم المغادرة في 27 كانون الاول. كان يوم بارد بشكل مميز. عارف ضراغمة، الباحث في “بتسيلم” في الغور ونائب رئيس مجلس شمال الغور الفلسطيني، كان معهم في ذلك اليوم من اجل توثيق معاناتهم. وقد قال إنه في كل عملية اخلاء هم يخافون. يخافون مما سيحدث لممتلكاتهم التي يتركونها خلفهم. ماذا سيحدث للاغنام. يخافون من الدبابات ومن مخلفات الذخيرة التي يمكن أن يتركوها خلفهم ويخافون على مصيرهم.
السكان عادوا في فجر 28 كانون الاول. جزء من خيامهم كان مدمر. عند شروق الشمس لاحظوا وجود عشرات الدبابات والمدرعات في المنطقة. الصليب الاحمر الدولي قدم لهم عدد من الخيام. الآن هم لم يعودوا بحاجة الى الاوامر من اجل أن يدمروا لهم مرة اخرى لأن الامر يتعلق الآن بمنطقة مدمرة. “اذا جئتم، نذهب. واذا ذهبتم، نعود”، يقول السكان للجيش. ليس لهم أي مكان يذهبون اليه من هنا مع الاغنام. في يوم الاحد الماضي، في 2 كانون الثاني، أمروا بالمغادرة مرة اخرى. ولكن حتى الظهيرة الجيش لم يحضر وهم بقوا في اماكنهم. في الظهيرة جاء الجيش وهم ذهبوا، وفي الفجر عادوا مثلما هو الامر دائما. هم يقولون بأنه كان هناك قصف في المنطقة. عند شروق الشمس في يوم الاثنين الماضي رأوا ما لم يروه في أي وقت سابق. ضراغمة قال: “حرب”. الجرافات جاءت وبدأت بالسير على حقولهم.
الدخول ممنوع
المتحدث بلسان الجيش سئل في هذا الاسبوع من قبل “هآرتس” عن سبب تدمير الحقول، وهل الجيش الاسرائيلي يتدرب هكذا ايضا في حقول المزارع والبؤر غير القانونية التي اقامها المستوطنون في الغور. الجواب كان: “المنطقة التي يدور الحديث عنها هي منطقة تدريب، تستخدم لتدريبات الجيش الاسرائيلي بصورة متتالية. طبقا لذلك، المنطقة تعتبر منطقة عسكرية مغلقة ودخول المواطنين اليها محظور بدون تصريح. خلال الاسبوع الماضي جرت مناورة عسكرية في منطقة اللواء القطري “الغور”، في اطارها تدربت قوات الجيش في المنطقة التي يدور الحديث عنها”. المتحدث تجاهل كليا سؤال هل الجيش يتصرف هكذا ايضا في حقول اليهود.
من وحدة تنسيق اعمال الحكومة في المناطق جاءنا الرد التالي: “في 28/12/2021 نفذت وحدة الرقابة في الادارة المدنية اعمال انفاذ للقانون ضد مرفقين من الخيام، التي اقيمت بصورة غير قانونية، بدون التصاريح والمصادقات المطلوبة لذلك، في منطقة التدريب 900 التي تقع في غور الاردن. الادارة المدنية توجهت عدة مرات للسكان الذين يتواجدون في المكان بصورة غير قانونية واوضحوا لهم بأن المكوث داخل مناطق التدريب يعرض حياتهم للخطر، وهو أمر غير قانوني. اعمال انفاذ القانون نفذت طبقا للصلاحيات والاجراءات، استنادا الى الاعتبارات العملياتية”.
المساء يهبط، مظلم وبارد. المنطقة مزروعة بأضواء السيارات العسكرية التي تتجول هنا وهناك، ايضا اضواء الجرافات اشعلت وهي تواصل بناء الاكوام في الظلام. الاولاد والنساء يتجمعون في الخيام، التي لا توجد فيها الآن ذرة ضوء منذ أن تم تحطيم الالواح الشمسية من قبل الجيش، والرجال يواصلون رؤية الجرافات في الظلام. بعد قليل سيشعلون النار من اجل أن يطردوا قليلا البرد.