«لا تنظر إلى السماء»

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

بقلم: عبد الغني سلامة

"Don’t look up" فيلم عبقري جديد، يتحدث عن كارثة كبيرة ستحل بكوكب الأرض، حيث يكتشف العلماء مذنّباً ضخماً يقترب من الأرض، يبلغ من الحجم ما يكفي لتدميرها، والقضاء على كافة أشكال الحياة فيها، وليس أمام العالم سوى ستة أشهر للتصرف قبل أن يواجه الانقراض الجماعي. في قصة الفيلم يتصور العالمان "راندال" و"ديبياسكي" أنهما بمجرد تبليغهما البيت الأبيض بهول الكارثة، فإن القيادة ستتخذ على الفور التدابير والإجراءات اللازمة لتفاديها، وإنقاذ مليارات البشر، لكن ما صدمهما ردة الفعل الساخرة والباهتة من قبل الرئيسة الأميركية وطاقمها. ثم يعتقدان أن إثارة المسألة في وسائل الإعلام ستؤدي إلى إثارة الرأي العام، وبالتالي إجبار الدولة على التصرف، ولكن المفاجأة الصادمة الثانية تمثلت بتحويل الإعلام خبر الكارثة إلى "ترند" ساخر للتسلية.  
صحيح أن قصة المذنب الذي سيضرب الأرض قصة مستهلكة، وهي أقرب للخيال، وقد جرى تداولها سابقاً مرات عديدة، لكن الفيلم استخدم "المذنب" كاستعارة رمزية ومقاربة للواقع، ربما لأنه ضخم وهائل ومباشر، وأقرب إلى خيال الناس من طرح كوارث أخرى حقيقية ولا تقل خطورة عن المذنّب. فهنا يمكن وضع أي كارثة أخرى تهدد البشرية مكان المذنّب، مثل التغير المناخي وتداعياته، الجوع، الانفجار السكاني ومستقبل البشرية، وباء خطير مثل "كورونا"، الحروب، السلاح النووي، الفقر والبطالة.. إلخ، بل وحتى يمكن وضع قضايا أخرى خطيرة وإن كانت بمستويات أقل، مثل التطرف والإرهاب والاستبداد والتخلف والعنصرية وغياب العدالة، أي بمعنى آخر "المذنب" استعارة رمزية عن الحقيقة التي نتجاهلها، أو الأخطار الكامنة التي تحيط بنا.
يمكن فهم الفيلم من أكثر من زاوية، فهو يطرح قضية التحالف التقليدي بين السياسيين، ورأس المال الانتهازي، والإعلام، وهو إدانة واضحة للنظام الأميركي (والرأسمالي عموماً)، وهو تأكيد على أن الفساد يؤدي إلى دمار شامل.
في أحداث الفيلم تكتشف عالمة الفضاء "جينيفر لورانس" المذنَّب أثناء متابعتها شاشة التلسكوب، فيدعمها مديرها العالم "ليوناردو دي كابريو"، ويبدآن بمهمّة تحذير البشرية من خطر المذنّب، وبعد اجتماعهما مع الرئيسة الأميركية "ميريل ستريب" يُصابان بالخيبة بسبب إنكارها وقوع الكارثة، والسخرية منها، ومحاولتها التقليل من أهميتها، فليجأ العالمان إلى وسائل الإعلام، فتكون المفاجأة أن أولويات الإعلام مختلفة تماماً، وكذلك اهتمامات الجمهور، حيث كانت قضية انفصال اثنين من المشاهير في مقدمة الأولويات، ولكن بعد طرحهما الموضوع بصورة مباشرة، يحوّل الإعلام الكارثة إلى خبر مسلٍ ومضحك.
وهكذا، بعد تحقق القيادة السياسية من صحة خبر المذنّب، تقرر إرسال طائرات حربية مسلحة بالنووي لتدميره وحرفه عن مساره. وهنا يتدخل رجال الأعمال، حيث يكتشف ملياردير، وصاحب أكبر شركة هواتف خلوية، أن المذنّب يحتوي على ألماس وذهب وعناصر نادرة وثمينة، فيتحالف مع السلطة السياسية للتراجع عن مهمة تدميره، حتى تتمكن شركته من تدميره بطريقتها الخاصة، بحيث تستفيد من كنوزه الثمينة، حتى لو أدى ذلك إلى هلاك دول وشعوب أخرى.
لعبة الإعلام القذرة، وبالتواطؤ مع السياسيين ورأس المال تمثلت في تسريب أخبار، وبثّ إشاعات، بما فيها توظيف علماء لدعم آرائهم، حيث في النتيجة ينقسم الناس بين مصدق للكارثة، ومنكر لها، وأهم ما في الفيلم أنه يصوّر كيف تستفيد الحكومة من الحقيقة والإشاعات الكاذبة في الوقت نفسه.
في مرحلة ما، يعتقد العالم "دي كابريو" أن الإصلاح ممكن أن يتم من الداخل، وعبر المؤسسة، فيقبل منصب مستشار علمي للبيت الأبيض، ويصبح جزءاً من الحكومة، لكنه سرعان ما يكتشف أن الدولة ورأس المال يريدانه تابعاً ومنفذاً فقط، أي شاهد زور، بينما تصر العالمة "جينيفر" على طرح الحقيقة بشكل مباشر وثوري، حتى لو كانت صادمة، ومؤلمة، أو أنّ الناس غير مهيئين لتقبلها.
وخشية من غضب الشارع، ولامتصاص نقمته، تلجأ الدولة إلى أسلوب اللعب على وتر الوطنية، وإثارة مشاعر الخوف، والتغني بالشعارات، وأن الأعداء يريدون القضاء على قيم الحرية والديمقراطية.
وبعد أن ينقسم الناس بآرائهم تكون النتيجة أن الشعب ألغى وهمّش نفسه بنفسه، بسبب تبنيهم لانحيازاتهم التأكيدية، وآرائهم المسبقة، ونظرية المؤامرة.
ولكن، عندما تظهر الحقيقة، ويقترب المذنب من سماء الأرض يطلب السياسيون والرأسماليون من الناس ألا ينظروا إلى السماء (حتى لا يروا الحقيقة)، فيما يطالب التنويريون الناسَ بالنظر للأعلى، ورؤية الحقيقة بأنفسهم.. لكن الأوان قد فات، ولم يعد بالإمكان تدارك الكارثة.  
شخصيات الفيلم مستوحاة من الحقيقة، حيث إن كل شخصية في الفيلم لها ما يقابلها على أرض الواقع، فمن السهولة لأي مشاهد أن يستنتج أن الرئيسة، هي في الواقع "دونالد ترامب"، بعبطه وهبله وأنانيته، وأن "جونا هيل" هو ابن "دونالد ترامب"، أو صهره "كوشنر" فكلاهما يتسمان بالسذاجة والبلاهة والثقافة السطحية.  
أما الملياردير "مارك ريلانس" فمن الممكن أن يكون "جيف بيزوس"، صاحب شركة أمازون، أو "إيلون ماسك"، أو أيّ من دهاقنة الصناعات العملاقة الذين ينكرون التغير المناخي، ويواصلون تلويث الكوكب حتى تزدهر أعمالهم. أما "جينيفر لورانس" فتجسد العلماء الذين اكتشفوا "كورونا"، أو الذين ابتكروا اللقاحات، أو العلماء الذين يحذرون من كوارث التغيير المناخي وأخطار التلوث، ويتحدثون عن مشاكل الفقر والجوع في العالم، ولا أحد يصغي إليهم، ويظن الجميع أن هذه الكوارث إما مؤامرة، أو مبالغات، أو أنها بعيدة جداً.  
وبمقاربة أحداث الفيلم مع واقعنا، ممكن إسقاط الشخصيات والأحداث على قضايا أخرى عديدة، منها مثلاً قضية الإصلاح، هل يتم من الداخل، وببطء، أم بطريقة ثورية؟ وكيف تعمل الدولة على تنظيم انقسامات الشارع، وتوظيفها لمصلحتها؟ وكيف تنخدع الجماهير في أحيان كثيرة بالشعارات، أو تتآمر على نفسها، وتتعامى عن رؤية الحقيقة، ولا تدركها إلا متأخرة، أو بعد فوات الأوان، فتدفع غالياً ثمن سلبيتها وتقاعسها، وثمن جهلها؟
الفيلم شيق وممتع، ويطرح الموضوع بطريقة كوميدية ساخرة، خاصة في النهاية.