تكلمنا في مقالة سبقت عن معنى ومبنى "الروايات"، بما يصدق على "روايتنا" أيضاً، وعرضنا لأمثلة تُسهم في توضيح المُراد، وخلصنا إلى ما يسمها من سيولة وحراك دائمين، وما يهدد بتحويلها إلى هراوة في ظل أنظمة شمولية، ونزعات أيديولوجية معادية للتعددية. ونحاول اليوم الكلام عن أوّل مصادر "الروايات".
ومن المفيد، في سياق كهذا، الوقوف، قليلاً، عند حادثة تهشيم أسود دوّار المنارة، في رام الله، قبل شهرين، لما لها من صلة وثيقة بموضوعنا.
ندد البعض بالحادثة، وأثنى عليها آخرون، ولكن أحداً من هؤلاء وأولئك لم يفعل ما فعل في معرض الدفاع عن "رواية" أو نقضها، ولم تحضر فكرة "الروايات" و"روايتنا" بطريقة تُذكر، رغم أن هذه وتلك هي الجوهر الحقيقي للحادثة. وما من قيمة معرفية، في الواقع، لما قيل من كلام على هامش هذا الموضوع (أسوأ ما قيل إن الفاعل مختل عقلياً)، ما لم تكن مسألة "الروايات" و"روايتنا" في صلبها.
لذا، في تحويل الحادثة المعنية إلى وسيلة إيضاح ما يمكننا من التقدّم خطوة إضافية. سبق وقلنا إن "الروايات"، بما فيها "روايتنا"، في حالة سيولة وحراك دائمين. وفي حادثة الاعتداء على "أسود المنارة" ما يصلح لتفسير "السيولة" و"الحراك" كحرب بين "روايات" في الحياة اليومية لبني البشر: في، وبما، لا يحصى من التفاصيل، التي لا تثير انتباه أحد، وهي مسكونة بالعنف السافر، أحياناً، والعنف الدلالي في كل حين. فما معنى هذا كله؟
لن نعثر على المعنى ما لم نضع في الاعتبار أن "الروايات" بما فيها "روايتنا" فعل علماني في الجوهر، ولم يكن ليصبح ممكناً قبل "نزع السحر عن العالم" (بلغة ماكس فيبر)، وانفصال الدنيوي عن الديني في كل حقول المعرفة، بما فيها إنشاء وتسويغ وتسويق "الروايات". الإنسان ليس هو الحيوان الناطق وحسب، بل والقادر على التخيّل، وأحلام اليقظة، وصياغة هذه الأشياء كلها في حكايات، أيضاً. (من المفيد العودة إلى "تاريخ الإنسان العاقل" ليوفال هراري).
وبهذا المعنى، لم يكف الإنسان عن إنشاء وتسويغ وتسويق "الروايات" منذ اكتشاف الزراعة قبل 12 ألف سنة، ولكن الأزمنة الحديثة أنجبت ظاهرة فريدة وجديدة هي القومية، ومكّنت، بالتالي، من إنشاء "روايات" مستقلة لجماعات متخيّلة، مع كل ما نعرف عن أولوية ومركزية هذه اللغة أو تلك، وخصوصية الجغرافيا، والميراث المشترك، والعلاقة الاستثنائية بين "الأمة" والتاريخ.
وفي هذا المعنى، فإن الظاهرة القومية هي الدفيئة الهائلة التي تشكّلت وانصهرت، أو انفصلت، فيها الجماعات والهويات و"الروايات". وهذا مصدر أوّل لـ"روايتنا"، و"رواية" غيرنا. لذا، عندما يجتهد فلسطيني كنور مصالحة، مثلاً، في كتابة ونشر كتاب بعنوان "فلسطين: أربعة آلاف عام في التاريخ"، وعندما تقع عين فلسطيني آخر على عنوان الكتاب سواء على صفحة إلكترونية، أو في مكتبة، يحدث نوع من "التعارف" الدلالي، والعاطفي، والمعرفي، بين "الكاتب والمكتوب وعين الرائي". يعرف "الرائي" أن الكاتب يتكلّم عنه، ومعه، وعمّا له، حتى وإن خاطب آخرين، وبلغة غير لغته، ويعرف الكاتب كيف يجعل منه فعل الكتابة رائياً إلى نفسه، ومتكلماً عنها، ومعها.
ومع ذلك، لا تحدث أشياء كهذه بطريقة سلسة، دائماً، فهي مسكونة بالتوتر، وقد تصبح هشّة تماماً. فقد حدث في جامعات فلسطينية أن رفض طلاّب الوقوف تحية واحتراماً للنشيد الوطني والعَلَم، وحدث أن تعرّض تمثال الجندي المجهول في غزة للتدمير، وحدث أن تعرضت أسود المنارة للاعتداء، وقد يتعرّض تمثال نيلسون مانديلا للتخريب.
وهناك نساء يضعن صور مزهريات وورود بدل الصور الشخصية في ملصقات انتخابية، وبيانات تتهم اتفاقية مكافحة العنف ضد النساء (سيداو) بتهديد العادات والتقاليد وتدمير المجتمع، و"تنفيذ مخططات العدو" هذا ما حدث، وما لا يكف عن التكرار. لماذا؟
من الأوصاف الشائعة في التعليق على ما تقدّم الكلام عن التقدّم والتأخر، وعن الإخوان والوهابية، وعن الدولارات النفطية، ولكن هذا، كله، يمكن أن يكون مفهوماً بشكل أفضل على خلفية فكرة تقول إن "الروايات"، بما فيها، "روايتنا"، ساحة حرب دائمة، تبرد حيناً وتسخن أحياناً، لأن هذه وتلك (وطالما نشأت في دفيئة الظاهرة القومية، التي تجعل من أصحابها جماعة مُتخيلة) فعل علماني في الجوهر.
ولا معنى لهذا، كله، دون تشخيص اللحظة التي ينفصل فيها الدنيوي عن الديني في "زمن نزع السحر عن العالم"، والدفيئة الهائلة للظاهرة القومية: لحظة ولادة "الثقافة" بما تعني من تحويل "أحلام اليقظة" والاستيهامات، إلى آداب وفنون، وإلى "شغل" و"رأسمال" في سوق رمزية مشتركة لهذه الجماعة القومية أو تلك.
ولعل في هذا كله ما يفسر مركزية اللغة، والمكانة الرمزية الهائلة لفنون وآداب الرواية والشعر والنحت والتصوير، والعناية الخاصة بالتاريخ، في التواريخ والحركات القومية للروس والألمان، وشعوب الحواضر العربية في مصر والعراق والبلاد الشامية والمغاربية واليمنية، وكل شعوب أوروبا الشرقية، والأسبان، والفرنسيين، والأتراك..الخ
وطالما أن أسود المنارة، والعَلَم، ونصب سمير قصير، والجندي المجهول، وكتاب التاريخ عن أربعة آلاف عام، وموسيقى النشيد الوطني، ومليون تفصيل آخر، رموز ثقافية في الجوهر، وفي وسعها التموضع، والإقامة، بيسر وسلاسة في "روايتنا"، فإن في الهجوم عليها ما يصلح وسيلة إيضاح لتفسير كراهية وعداء الأصولية الدينية للظاهرة القومية، والثقافة الحديثة، و"الروايات" القومية، بما فيها "روايتنا"، أيضاً ("العَلَم صنم والوطن وثن"، حسب العبارة الشائعة لسيد قطب). فاصل ونواصل.
