معاريف – وصلنا الى زمن آخر

حجم الخط

معاريف – بقلم  جاكي خوجي 

 

” السلطة الفلسطينية معزولة اكثر من اي وقت مصر، وهي ترسل أياد تتلمس الطريق طلبات للمساعدة والعناق من شقيقاتها العربيات، اللواتي ابتعدن عنها بثبات في العقد الاخير “.

يوم الثلاثاء حل رئيس السلطة الفلسطينية ضيفا لدى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في شرم الشيخ. روى ابو مازن للسيسي ما درج على ان يرويه لكل من هو معني بالسماع. صندوقنا فارغ ووضعنا يائس. بعد ذلك اشتكى قليلا من الاسرائيليين، وروى عن لقائه مع وزير الدفاع بني غانتس قبل اسبوعين ونصف. استمع السيسي بانصات شديد. بعد بضع ساعات من ذلك نشر مكتبه بيانا على لسانه يفيد بان مصر ستواصل دعم الكفاح الفلسطيني لاستعادة الحقوق. 

لم ينجح ابو مازن في  أن يستخلص من السيسي اكثر من بيان  الدعم والانصات. “رجال المخابرات من الجانبين ايضا ممن جلسوا في اللقاءات وجدوا صعوبة في ان يجدوا حلا للمشكلة التي علقت فيها السلطة. ازمة في كل الجبهات، من الداخل، من الخارج، من الصندوق العام وفي الوضع الامني الداخلي. اما عن الكورونا وآثارها فاحد لم يعد يتحدث.

في تلك الساعات كان المسؤول الكبير في السلطة جبريل الرجوب في دمشق. الرجوب، 68 سنة، ارسله ابو مازن في مهمة هامة للمصالحة مع القيادة السورية؟ وبالفعل، من لم يشاهده يمتدح بشار الاسد لم يرَ عرضا تمجيديا في حياته. “لا يوجد بيت لا تعلق فيه صورة بشار الاسد والعلم السوري”، سار الرجوب في مبالغاته.

“زيارته هناك شاذة حتى اكثر من زيارة  سيده الى مصر. بين قيادة م.ت.ف والنظام السوري ساد جمود منذ عهد اوسلو. الاسد، في حينه الاب حافظ، غضب من ياسر عرفات على أنه تجرأ على التقرب من الاسرائيليين، وتركه يتصدى وحده لجهود استعادة الجولان. حتى اوسلو، هكذا على الاقل اعتقدوا في دمشق، سارت المسألة الفلسطينية ومشكلة الجولان يدا بيد، وشكلتا ورقة ضغط شديد على اسرائيل. عندما توجه عرفات الى اتفاق سلام منفرد، شعرت دمشق بطعنة سكين في الظهر. ومع ان الاسد الاب نجح في أن يمزق قطعة من لحم م.ت.ف، وابقى تحت رعايته معظم الفصائل في م.ت.ف. لكن عرفات ومعه قيادة فتح لم ينظروا الى الوراء. واصل في مسيرة السلام مع حكومة اسرائيل وعندما بدأت تتردد خرج ضدها الى الحرب. بقي النظام السوري جافا في الخلف،  ولكن الواقع اعد له جائزة طردية. حماس، التي كانت في حينه منظمة متطرفة ومتحدية في بداية طريقها، فرحت بالرعاية  تحت كنف دمشق.

جبريل الرجوب هو احد القلائل من بين قادة فتح الذي يتمتع بمكانة جماهيرية متينة. لمعظمهم، بما في ذلك قيادة حماس أيضا، يكن الجمهور الفلسطيني الاحتقار. اما الرجوب، مقارنة بموكب الشخصيات التي تحيط ابو مازن وان كان يحمل على ظهره هيكلا او اثنين، لكن ماضيه القتالي، صلاحيته الجماهيرية و 15 سنة سجنه – لا تزال تقف في صالحه في اوساط الكثيرين. في السنوات الاخيرة عمل على استخدام خلفيته كنشيط مقاومة سابق كي يحسن مواقفه في المعركة على خلافة ابو مازن. 

عمل الرجوب في السنوات الاخيرة كمبعوث من الرئيس لمهام سياسية، وعلى رأسها اتصالات المصالحة مع قيادة حماس في الخارج. في 2002، في ذروة الانتفاضة الثانية سلم للشباك نشطاء حماس الذين كانوا معتقلين لديه في بيتونيا، في ذروة الحصار الذي فرضه الجيش الاسرائيلي على المعتقل الذي تحت رعايته. في حماس يذكرون جيدا ويتهمونه بانه تصرف كآخر المتعاونين. يعمل الرجوب على أن ينزل عنه هذه الوصمة. لهذا السبب وكي يجمع النقاط في الطريق الى قمة السلطة اكثر من اطلاق التصريحات اللاذعة للاذن الاسرائيلية في تمجيد الشهداء والسجناء. 

صلاة لجنود الجيش الاسرائيلي

لكن الرجوب، الذي اعده ابو مازن لان يخلفه، ليس القصة هذا الاسبوع. القصة هي الوضع المتهالك للسلطة والعزلة التي علقت فيها، ولا سيما في اوساط اخوانها في العالم العربي. صحيح حتى اليوم ليس للسلطة ولا قوة عظمى عربية واحدة، من بين الدول العربية القوية في الجامعة العربية تدعمها. الاردن عبدالله الثاني وان كان يمنحها عناقا حارا، ولكن ليس فيه من القوة العظمى المصرية، مثلا، ومن الدعم المادي السعودي. الجزائر هي الاخرى تدعم الفلسطينيين على الملأ، لكن حكومة عبدالمجيد طابون مقربة ايضا من الايرانيين، وهذه الخلطة ليست في صالح الفلسطينيين.

الانظمة العربية اليوم اضعف بكثير وتعنى بنفسها وليس بالاخرين. عصر الديناصورات انقضى ومعه قدرة عرفات على أن يشغل بضغطة زر الرئيس المصري، صدام حسين، معمر القذافي، ملك السعودية وحافظ الاسد.

القاهرة اليوم مشغولة بشؤونها، ورغم تصريحات السيسي الجميلة بان مصر بقيادته تقف الى جانب الفلسطينيين، ففي السنوات الاخيرة حسن علاقاته بالذات مع اسرائيل.  اتحاد الامارات والبحرين لم تكونا ابدا عاطفتين على الفلسطينيين. وقد ادعتا هما ايضا بحماسة انهما لم تهجرا الفلسطينيين – لكنهما فضلتا اسرائيل عليهم.  السعودية، الداعمة الاكبر للاقصى، وان لم تحسن علاقاتها مع اسرائيل، الا انها ايدت اتفاقات ابراهيم  وباركت لها الطريق. عندما اهانت السلطة هذه الدول على الخطيئة الفظيعة رأى السعوديون انفسهم عنوانا للهجوم وبردوا علاقاتهم مع رام الله. عليهم جميعا تفوقت المغرب. الملك محمد السادس الذي ورد عن ابيه المكانة الخاصة كرئيس لجنة القدس في الجامعة العربية، وثق علاقاته ليس مع اسرائيل بل ومع جهازها الامني. فما هو اكثر رمزية من تلك الصلاة لسلامة جنود الجيش الاسرائيلي التي تمت من العاصمة الرباط. كان هذا في الكنيست في المدينة في اثناء زيارة غانتس في اواخر تشرين الثاني. من يذكر متى شكلت عاصمة عربية قاعدة صلاة من اجل جنود الجيش الاسرائيلي. 

الواحد تلو الاخر فقدت السلطة، في السنوات الاخيرة، معظم ذخائرها. غرقت في فساد سلطوي وفي عدم اكتراث لمصير مواطنيها. وهكذا حظيت ايضا بعداء الجمهور. لم تعرف كيف تدير علاقاتها مع حماس. وخلدت الانقسام. “غزة والضفة تداران اليوم كدولتين منفصلتين، وبين البحر والنهر توجد ثلاث دول للشعبين. هذا الانقسام يضعف جدا المعسكر الفلسطيني كله وينزل من قيادته اوراق ضغط على اسرائيل. لم يتمكن مسؤولو السلطة من الفهم بان البحرين واتحاد الامارات صنعا السلام مع اسرائيل انطلاقا من مصلحة وطنية حيوية، وهذا حقهما الكامل. رغم ذلك، وصفوا الخطوة بـ “الخيانة” ونسوا بان لهما ايضا احتياجات اهم من المسألة الفلسطينية. ضربات اخرى تلقتها ليس بذنبها. فقد اخرج ترامب عليها غضبه، منع عنها الميزانية واوقع عليها اتفاقات ابراهيم. الاتحاد الاوروبي علق في مصاعب مالية وقلص دوره في النزاع الاسرائيلي الفلسطيني.  وصائب عريقات الذي انصرف بسبب الكورونا.

السند الأصلب

رغم كل هذا فان الضربة الاشد تلقتها السلطة من نتنياهو. فحقيقة أنه رفض بشدة السير معها الى اتفاق سلام نزع عنها تحولها الى دولة – الربح الاكبر  الذي  كان يمكن لتسوية  كهذه ان تمنحه لها.  

ياسر عرفات يتقلب في قبره، وبعدها يعود الى وضعيته، ويكرر ذلك. ولكن الحقائق تتحدث عن تلقاء ذاتها. السلطة الفلسطينية معزولة اكثر من اي وقت مضى، وهي ترسل اياد تتلمس الطريق طلبا للمساعدة  والعناق من شقيقاتها العربيات، اللواتي ابتعدن عنها بثبات في العقد الاخير. اذا ثار لديكم احتقار في ضوء وضع السلطة الموصوف هنا، فماذا ستقولون عن الحقيقة البسيطة في أن السند الاصلب للسلطة هذه الايام هو اسرائيل. تمسك بعناقها وفي نفس الوقت تلعق جراحها. مثل الزواج النكد. ليس لمحبة هامان بل بسبب التخوف من انهيارها. هكذا نحن. نعمل بكد شديد كي نهدم، وعندما نفهم ما فعلنا، نبحث عن السبيل للترميم.