المواطن والأجهزة الأمنية والاغتيال المعنوي للسلطة

زياد ابو زياد.PNG
حجم الخط

بقلم: المحامي زياد أبو زياد

 

شاهدت قبل ثلاثة أيام على احدى وسائل التواصل الاجتماعي مقابلة مع والدة شابين من بلدة بيتا قضاء نابلس تم اعتقالهما من قبل مجموعة من الأمن الوقائي في الليلة التي سبقت ذلك بعد أن تعرضا للضرب وتم تجريد أحدهما من ملابسه أثناء اعتقاله. وأضافت والدته بأن سبب اعتقال أحدهما هو فقط لمشاركته في جنازة أحد الشهداء.
وتساءلت والدتهما ببراءتها الفلاحية وبلهجة عتاب لا تخلو من الألم، لماذا يتصرف معنا أفراد الأمن الوقائي هكذا وهم – أي أفراد الأمن الوقائي- أولادنا.
وقبل أن أستطرد لا بد من توجيه التحية لبيتا وأهل بيتا ولكل من وقف معهم في وقفتهم البطولية ضد الاستيطان في جبل أبو صبيح الذي دفعوا من أجله حتى الآن قرابة عشرة شهداء وما زالوا على الرباط.
ولقد لاحظت أن عدد الذين شاهدوا هذ الفيديو خلال ثلاث ساعات من نشره أي حين شاهدته قد بلغ 8800 مشاهد، كما لاحظت أن جميع التعليقات عليه ممن يشاهدونه كانت تعليقات سلبية ضد السلطة، وأستطيع أن أجزم بأنه إذا ما زال هذا الفيديو متداولا ً على وسائل التواصل فإن عدد مشاهديه قد بلغ الآن عشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف.
وأستطيع أن أتخيل حجم الأذى الذي لحق ويلحق بسمعة وصورة السلطة الفلسطينية من جراء هذا الفيديو ومن جراء فيديوهات أخرى مماثلة تتعلق كلها بطريقة تعامل الشرطة وأفراد أجهزة الأمن الفلسطينية مع أفراد شعبهم سواء عند فض التجمعات والمظاهرات والوقفات الاحتجاجية والتي كان آخرها في رام الله مؤخرا ً بعد قتل الناشط نزار بنات – وهذا موضوع يطول الخوض فيه – ، أو عند القيام باعتقال مواطنين من بيوتهم لأسباب سياسية في أغلب الأحيان، وكذلك الأخبار التي يتم تداولها بين الناس عن معاملة المعتقلين لدى السلطة وخاصة في سجن أريحا، سواء كانت هذه الأخبار صحيحة أو مبالغ فيها بل وحتى لو كانت كاذبة فإن تداولها ينضم الى مجموعة الوسائل والأدوات الجاري استخدامها لتشويه صورة السلطة وتحريض الناس ضدها وصولا ً لاغتيالها المعنوي.
وأول ما يتبادر الى الذهن ونحن نرى ونسمع ونقرأ عما يجري من ممارسات من قبل الشرطة ورجال الأمن وبعضها موثق بالصوت الصورة هو التساؤل: ألا يكفينا جور وظلم الاحتلال والاستيطان واستبدادهم حتى تقوم أجهزتنا هي الأخرى بذلك، ولمصلحة من يتم انضمام البعض الى فرق الاغتيال المعنوي للسلطة وما هو البديل لها لو تمت تصفيتها؟
ليس سرا أن جميع أفراد الأجهزة الأمنية في العالم يتلقون نفس التدريب حول كيفية الاعتقال وترويض المعتقل وإخضاعه وقمع أية مبادرة من قبله لمقاومة الاعتقال، وحول أساليب التحقيق وانتزاع الاعترافات ضمن حرب عقول لا تخلو من الترهيب أو التعذيب. هكذا هي كل الأجهزة الأمنية في العالم. ولا أحد يستطيع أن يتوقع منها غير ذلك، وجميع هذه الأجهزة في العالم تقرأ على شيخ واحد! ولكننا نحن أبناء الشعب الفلسطيني الذين لا نزال نرزح تحت الاحتلال فإننا لا نزال نرى في أفراد الأجهزة الأمنية أخوة وأبناء وأصدقاء وأقارب، ولسان حالنا يردد مع الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد قوله ” وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند”.
لقد رُفع بعد عام 2007 شعار بناء أجهزة أمنية مهنية غير مسيسة وتم التخلص تدريجيا من العديد من الكوادر الفتحاوية وغير فتحاوية من السجناء السابقين الذين انخرطوا في هذه الأجهزة، واستبدالهم بشباب غير مسيسين لبناء أجهزة أمنية محترفة على يد خبراء أجانب.
وهذا الأمر لا ضير فيه لو كنا قد استكملنا بناء مؤسسات الدولة وأقمنا الأجهزة لتعمل على حماية أمن واستقرار هذه الدولة. ولكننا وللأسف الشديد لم نستكمل بناء مؤسسات الدولة بل وقمنا وفي ظل الانقسام المشؤوم بهدم ما بنيناه من مؤسسات وتركنا الساحة مفتوحة تماما أمام إشاعة الفوضى والفساد والاستقواء على المواطن الغلبان بحيث بات من لا تنظيم يحميه ولا عشيرة تحتضنه وتذود عنه بالحق والباطل على حد سواء أصبح حقه مهضوما وساحته مستباحة. ولو حرصنا على بناء مؤسسات الدولة وسلطاتها الثلاث بنفس القدر والنجاح الذي بنينا به الأجهزة الأمنية لكنا قد تخلصنا من الاحتلال منذ زمن طويل.
لقد كانت لنا تجربة فريدة في النصف الثاني من التسعينيات حين كان لنا مجلس تشريعي وكان هناك تقرير لهيئة الرقابة عن مختلف جوانب أداء السلطة الوليدة آنذاك ومن بين ذلك ما كان يجري لدى بعض الأجهزة الأمنية حديثة العهد قليلة الخبرة في ذلك الحين، من ممارسات بلغت في بعض الأحيان “اختفاء” البعض بعد اعتقالهم لديها، وقد استطاع المجلس التشريعي الأول وضع حد لكل تلك الممارسات وضبط أداء الأجهزة الأمنية من خلال إخضاعها للرقابة والمساءلة البرلمانية وإعادة الشعور بالأمن للمواطن والاحترام لأفراد تلك الأجهزة.
واليوم وبعد قرابة ربع قرن من ذلك نجد أنفسنا نعود لنفس الدائرة والى نفس المكان الذي كنا فيه عند قيام السلطة.
المواطن الفلسطيني الحر الذي يعتز بكرامته ومستعد للذود عنها هو آخر رصيد تبقى في جعبتنا لاستخدامه في معركة التحرر الوطني لدحر الاحتلال والاستيطان، ولا شك بأن كسر شوكة المواطن وإذلاله وزعزعة شعوره بالانتماء للوطن وللسلطة وللقضية ولمعركة التحرر الوطني ودفعه الى هامش الاستسلام والخنوع والبحث فقط عن لقمة العيش، لن يفيد إلا أعداء شعبنا الذين يحاولون طمس هويته وقتل شهامته. ومن أجل ذلك نحن بأمس الحاجة للمواطن الذي لا يركع إلا لله ولا يستسلم ولا يتنازل عن كرامته لأنها أساس وجوده.
لقد قرأت في صحيفة “القدس” أمس تقريرا ً مطولا ً عن زيارة وزير الداخلية الجديد الأخ زياد هب الريح لمدينة بيت لحم وحديثه المطول عن مفهومه للعلاقة بين الأجهزة الأمنية والمواطنين. وأنا وبدون أي مجاملة أعتقد بأن ما أدلى به يصلح لأن يكون عقيدة أمنية يجب أن تلتزم بها كافة الأجهزة الأمنية لأنه لو تم الالتزام بها فإن الحالة ستتغير إيجابا ً بمقدار 180 درجة. ومع أني أعتقد بأن لكل جهاز أمني خصوصيته وقيادته واستقلاليته وأن هيمنة وزير الداخلية على بعض الأجهزة وربما معظمها مقيّدة باعتبارات معينة لدى كل جهاز إلا أنني آمل بأن تتضافر الجهود وبدعم من الرئيس لتجسيد الرؤية التي طرحها الأخ الوزير حقيقة على أرض الواقع لا مجرد أحلام تصطدم بالواقع عند أول محاولة لتجسيدها. فالقول الذي تتم ترجمته الى فعل هو قول لا يكبر مقتا عند الله بل الله يباركه.