باعتقادي أن أكبر وأهم خطر يمكن أن يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، وتثبيت إسرائيل كقوة غاشمة ومهيمنة على المنطقة، وإلى الأبد، هو إنهاء الكيانية الوطنية الفلسطينية، وإلغاء الصفة السياسية للشعب الفلسطيني، أي تذويب كيانيته السياسية المتمثلة بمنظمة التحرير، وبصفتها ممثله الشرعي والوحيد.
بالتأكيد هنالك أخطار أخرى، إلا أن التحدي الأهم أمام المشروع الصهيوني هو القضاء على الوحدة السياسية للشعب الفلسطيني، وإخراجه من التاريخ، وإقصاؤه من الساحة الدولية كطرف سياسي، وبالتالي تذويبه في الجغرافيا؛ ذلك لأن إسرائيل في الأساس مشروع استيطاني إجلائي إحلالي لا يمكن له أن يتثبّت ويستقر إلا بهزيمة نقيضه المركزي (الشعب الفلسطيني)، وإجلائه والإقامة على أنقاضه، وهذا يتطلب بالضرورة تصفية وجوده، إذا تعذر ذلك مادياً (أي قتل كل الفلسطينيين) فإن ما يمكن تحقيقه إخفاؤهم سياسياً، أي إقناع العالم بأن من هم خارج فلسطين هم مجرد لاجئين، يمكن منحهم مخيمات ومؤناً، ومن بقي منهم مجرد سكان وأقلية سيتم التعامل معهم. وبالمحصلة هؤلاء ليسو شعباً، وليس لهم الحق بوطن، ولا بدولة، ولا بتقرير المصير.
وهذه المهمة عجز عنها المشروع الصهيوني حتى الآن (وأقول حتى الآن؛ لأن ذلك لا يعني حتمية فشله في المستقبل)؛ فمنذ البداية أقامت الصهيونية روايتها على أساس أن فلسطين أرض بلا شعب! ولما تبيّن للمستوطنين الأوائل أنها عامرة بالسكان، قيل لهم: إنهم بدائيون، وغير جديرين بالحياة. ولما قامت إسرائيل كان همها الأول طردهم بالقوة والإرهاب، ومن تبقى منهم تعاملت معهم كأقلية سيجري تفتيتها وتذويبها، بعد أن قضت على كافة مقومات وحدتهم ودمرت كل بُناهم الاجتماعية والمؤسساتية والقانونية التي كانت تعبّر عنهم.
ومن تم تهجيرهم كانت تنتظرهم مخططات التوطين والدمج والتذويب والإنابة، وقد تولت الأنظمة العربية هذه المهمة، فحاولت بكل جهدها منع إقامة أي كيان سياسي فلسطيني، فكانت سنوات الخمسينيات فترة التيه والضياع، التي كادت أن تحوّل الفلسطينيين إلى «هنود حمر»، ليصبحوا مجرد ذكرى، وأطلال شعب لا تربطهم سوى علاقة «وجدانية» بما كان يوماً ما وطن أجدادهم، لتنتهي الحكاية هنا.
ما حصل فعلياً في أواسط الستينيات أتى على عكس كل المخططات الإقليمية والدولية؛ فقد اجترح الفلسطينيون مأثرتهم التاريخية، وأطلقوا ثورتهم المسلحة، وأقاموا «منظمة التحرير الفلسطينية» لتعبّر عنهم، وتمثلهم، وتجسد شخصيتهم السياسية وكيانهم الوطني، وكان هذا أقوى وأهم رد على المشروع الصهيوني، وأهم إنجاز فلسطيني في تاريخهم الحديث.
لعقود متواصلة تجاهلت إسرائيل (وبالطبع أميركا كذلك) وجود منظمة التحرير، ولم تعترف بها، ولم تعترف أصلاً بوجود شعب فلسطيني، لكنها سعت بشتى السبل للقضاء على المنظمة، وهزيمتها عسكرياً، ومنع المجتمع الدولي من الاعتراف بها، أو حتى التعامل معها، كما حاولت مراراً خلق بدائل عن المنظمة (انتخابات بلدية، روابط قرى، إدارة مدنية، التفاوض مع شخصيات محلية...) وكل ذلك فشل، إلى أن تم التوقيع على اتفاقية أوسلو، والتي جاءت ضمن سياق تاريخي وسياسي معين، أجبر الطرفين (الفلسطيني والإسرائيلي) على الالتقاء والتفاوض وتبادل الاعتراف، وبالتالي خُلق واقع سياسي جديد وبمعطيات مختلفة، جعل كل طرف يتبنى إستراتيجية جديدة ومختلفة أيضاً.
تعاملت الإستراتيجية الفلسطينية مع أوسلو كمرحلة انتقالية مؤقتة، ستُفضي إلى قيام دولة فلسطينية (كان ذلك ممكناً بالمناسبة)، لكن المؤشرات الحالية تشير إلى إخفاق هذه الإستراتيجية (رغم أنها تعمدت بالدماء والتضحيات).
أما إسرائيل فقد غيرت إستراتيجيتها (بعد هيمنة اليمين على الحكم) بالعودة إلى محاولات تحقيق الأهداف الصهيونية القديمة: الاستيطان، والتهويد، ومصادرة الأرض، وتهجير السكان، وتثبيت الاحتلال للضفة الغربية (بعد إخراج غزة من دائرة الأطماع التوسعية)، وإضعاف السلطة الوطنية، إلى درجة محاولة تحوليها إلى وكيل أمني وكومبرادور اقتصادي، وتفتيت كيانية السلطة إلى كانتونات متفرقة، بحيث تمنع إقامة دولة فلسطينية، وصولاً إلى هدفها الأساس: تفتيت الكيانية الوطنية وطمس الشخصية السياسية لشعب فلسطين.
وقد حققت إسرائيل (بالتواطؤ مع أميركا) اختراقات خطيرة بشأن فلسطينيي الشتات: (إعادة تعريف اللاجئ، ووقف الدعم عن «الأونروا»، وإسقاط حق العودة)، كما اقترفت السلطة الوطنية خطيئة تاريخية بإهمال منظمة التحرير، وتحييد فلسطينيي الشتات (وهذا لا يعفيهم من المسؤولية).
في الداخل (1948) جرى المخطط الإسرائيلي باتجاه إغراق المجتمع الفلسطيني بالمشاكل والمخدرات والجريمة وتفتيت وحدتهم الوطنية، وهذا المخطط أفشله أهلنا في الداخل ومؤشرات ذلك كثيرة، آخرها انتفاضة أيار.
أما بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة 1967، فقد نجحت إسرائيل بخلق وتثبيت الانقسام (وهذا تم للأسف على أيدي فلسطينية)، ومنذ 2007 صار لقطاع غزة مستقبل سياسي منفصل عن القضية الوطنية، وبعد أربع حروب تدميرية فرضت إسرائيل واقعاً جديداً، وصار بوسعها التفرغ للضفة الغربية.
وما تعمل عليه إسرائيل في الضفة الغربية وتخطط له ليل نهار، إضافة إلى مواصلة بناء الجدار والاستيطان والتهويد والضم، هو مواصلة هدم المجتمع الفلسطيني وإغراقه في الفوضى، وصولاً إلى خلق واقع سياسي أمني جديد، سيجبر السكان على الهروب والهجرة، ومن يتبقَ سيعيش في معازل جغرافية صغيرة ومتناثرة وغير متصلة (إلا بطرق تسيطر عليها إسرائيل).
وهذا المخطط (وما أقوله ليس توقعاً أو تحليلاً) يستثمر في البنية العشائرية والقبلية، ويعمل على إقامة سبع كيانات قبلية، تشبه الممالك القديمة، حيث كانت كل مملكة عبارة عن مدينة مركزية تتبعها مجموعة قرى، وتسيطر عليها مجموعة أو أكثر.
هذا المخطط قد يبدو للوهلة الأولى مجرد خيال، أو أن تحقيقه مستحيل، لكن الحقيقة أن العقلية القبلية جاهزة له تماماً، ومرحبة به، وما يمنع تحقيقه الآن هو وجود السلطة الوطنية وبقايا المشروع الوطني، أي الوحدة الوطنية. ولكن، بإشاعة الفوضى الأمنية، وغياب حكم القانون مع تصاعد نفوذ العشائر، وإطلاق العملاء، وإحداث فتنة، ومع وجود آلاف قطع السلاح، وصراعات سياسية وحزبية على السلطة، وتنافس قبلي للسيطرة على المجتمع، ستنشب النيران، وقد تؤدي إلى حروب أهلية (وقد قدمنا بروفات تحضيرية عديدة في هذا الاتجاه).. حينها، وبمجرد انهيار السلطة ستتحول كل مدينة إلى دويلة، وسيقول رئيسها: إنه حاكم بأمر الله، ومقيم لشريعته، ومحافظ على القيم والتقاليد. وهذا المخطط موجود فعلاً في أدراج الإدارة المدنية.
حينها ستقول إسرائيل منتشية: ألم أقل لكم، هؤلاء ليسوا شعباً، هم مجرد رعاع وقبائل متناحرة، ولا يستحقون دولة.
نحن لسنا استثناء، وتاريخنا العربي حافل بمثل هذه الأمثلة، ولكن المشكلة أننا لا نقرأ، ولا نتعظ من التاريخ.