اوري مسغاف يدعي أن الصهيونية ليست كولونيالية (“هآرتس”، 6/1). حسب قوله، في حين أن الخاصية الاساسية للكولونيالية هي وجود دولة عظمى أم، التي تسيطر على اراضي “العالم الجديد” وتقيم مستعمرات لمواطنيها بهدف نزع ملكية السكان المحليين واستغلال موارد بلادهم، فانه ليس هناك أي دولة عظمى اوروبية ارسلت اليهود الصهاينة من قبلها الى ارض اسرائيل بهدف نزع الملكية والاستغلال والهيمنة. مسغاف على حق بصورة جزئية. طالما أن الامر يتعلق بتاريخ الحركة الصهيونية في العهد العثماني فانه، خلافا لادعاءات جزء من الابحاث الانتقادية للصهيونية، ليس هناك أي اساس لتشخيصها على أنها كولونيالية. سواء الصهاينة السياسيين، أو الصهاينة العمليين،كانوا يدركون أن المهاجرين من اوروبا جاءوا للتوطن في الامبراطورية التركية العثمانية ورأوا في تجسيد تقرير المصير للشعب اليهودي في ارض اسرائيل في اطار حكم ذاتي في ولاية في اطار الامبراطورية.
لثيودور هرتسل، مثلما يتضح من روايته السياسية “التنويلاند” (ارض قديمة جديدة) كان واضح أن ارض اسرائيل المستقبلية ستبقى تحت سيادة الامبراطورية العثمانية، التي ستزدهر اقتصادية وستحافظ على سلامتها في خلاف تام لنوايا الدول الكولونيالية العظمى الغربية التي سعت الى تقويضها. عشية دخول تركيا الى الحرب العالمية الاولى اثار دافيد بن غوريون مخاوف كبيرة من احتمالية انتصار دول الاتفاق – حيث أنه خشي من سياسة القمع الكولونيالية التي مارسوها تجاه شعوب الشرق المحتلة. في 1914 كتب: “في الهند (انجلترا تقيم) نظام يخنق بوسائل اكثر قسوة ووحشية كل فكرة حرة وكل علامة من علامات الصحوة الشعبية”.
في المقابل، يصعب الموافقة على موقف مسغاف في كل ما يتعلق بفترة الانتداب البريطاني. صحيح أنه ايضا في ذلك العهد فانه لم ترسل أي دولة غربية أو غيرها الى ارض اسرائيل مواطنيها اليهود من اجل أن يتوطنوا فيها وينزعوا ملكية سكانها. صحيح أن بريطانيا، مثلما قال مسغاف “احتفظت بارض اسرائيل كانتداب دولي وقيدت الهجرة واستيطان اليهود”. ولكن يجب أن لا ننسى أن الاساس الجوهري للانتداب البريطاني كان يكمن في وعد بلفور الذي عبر عن التزام صريح للدولة العظمى البريطانية بالمساعدة في بناء وطن قومي يهودي في ارض اسرائيل.
المعنى الفعلي لهذا المفهوم الرعوي “وطن قومي” كان التحويل بالتدريج للاقلية اليهودية التي عاشت في اسرائيل في 1917 الى اغلبية ديمغرافية. هذا خلافا لرغبة الاغلبية السكانية العربية التي سكنت طوال اجيال طويلة في البلاد أو في الجزء الغربي العثماني الذي كانت البلاد تمثل جزء لا يتجزأ منه لمئات كثيرة من السنوات – مع تجميد حق هؤلاء السكان في تقرير المصير طالما أن البيت القومي اليهودي في مراحل البناء.
تفسير هذا الامر كان أن دولة عظمى اجنبية منحت رعايتها القانونية والسياسية لاستيطان مهاجرين اجانب (الذين في الواقع لم يروا في ارض اسرائيل ارض غريبة، لكن اعتبروا اجانب في نظر السكان المحليين في هذا الجزء من البلاد الذي يقع تحت سيطرتها). ورغم أن المستوطنين الصهاينة لم يكونوا في اغلبيتهم الساحقة مواطنين بريطانيين، ورغم أن البريطانيين ارادوا في اكثر من مناسبة التنصل من التزامهم بتأييد البيت القومي اليهودي، إلا أن عامل استيطان مهاجرين برعاية دولة اجنبية مع تعليق حق تقرير المصير لسكان المكان، كان يكفي من اجل أن نرى في المشروع الصهيوني في عهد الانتداب نوع من مشروع كولونيالي.
الاشخاص النزيهين والصريحين في اوساط الصهاينة الذين عاشوا في تلك الفترة اعترفوا بصراحة بالطابع الكولونيالي للمشروع الصهيوني. زئيف جابوتنسكي في مقاله التأسيسي “على جدار الحديد: نحن والعرب” (1923) قام بمقارنة صريحة بين الاستيطان الصهيوني في ارض اسرائيل في عهده وبين احتلال المكسيك والبيرو من قبل الاسبان واستيطان الانجليز، الاسكتلنديين والهولنديين في شمال امريكا. كل ذلك من اجل التأكيد على أن المقاومة العنيفة لعرب ارض اسرائيل لاستيطان مهاجرين صهاينة هو امر طبيعي ومفهوم بحد ذاته، بالضبط مثل مقاومة ابناء الشعوب الاصلية في “العالم الجديد” للاستيطان الاوروبي.
ولكن الى جانب خصائصها الكولونيالية كانت الصهيونية الحديثة ايضا حركة قومية واضحة، طمحت الى تحقيق تقرير المصير للشعب اليهودي في الارض التي تعتبر في نظر يهود، وكثير جدا من غير اليهود، وطنه القومي الوحيد في العالم. الطموح الاساسي القومي هذا للصهيونية انبثق من المبدأ العالمي لحق الشعوب في تقرير المصير والذي آمن به رؤساء الحركة الصهيونية حتى في فترة الكولونيالية الانتدابية. ليس من الغريب اذا أن ذكر جابوتنسكي في الفقرة الاخيرة من “على الجدار الحديدي” أن احدى القضايا المشروعة في المفاوضات المستقبلية مع عرب ارض اسرائيل، التي ستبدأ بعد الانتصار العسكري للصهيونية وخلق اغلبية يهودية في البلاد، ستكون خيار “الاستقلال القومي” لعرب البلاد (مقولة معناها تم طمسه لاحقا نتيجة ترجمات خاطئة من الروسية لمفهوم “استقلال” في هذا المقال مثلما اظهرت ذلك هنا في السابق).
شبيها بحركات قومية كثيرة ايضا الصهيونية استخدمت وسائل غير اخلاقية وعنيفة، في حالتنا الوسائل الكولونيالية، من اجل تحقيق هدف اخلاقي ومحق في جوهره، وهو تحقيق حرية قومية لشعب مضطهد ومقموع ولا يوجد له وطن. ولأن هذا الهدف كان مرتبط بالفكرة المبدئية لحرية الشعوب وحقها في أن لا تكون مهانة ومستعبدة من قبل شعوب اخرى فان استخدامها المستقبلي لتقرير المصير للقومية اليهودية في ارض اسرائيل كان مقترن من ناحية الصهيونية بالاعتراف الموازي بأنه ايضا القومية العربية في البلاد تستحق نفس الدرجة من الحرية القومية مثل القومية اليهودية. بكلمات اخرى، مع تحقيق تقرير المصير القومي لليهود في ارض اسرائيل كان على الصهاينة أن يلقوا في سلة قمامة التاريخ الوسائل الكولونيالية والوقوف خلف حق الجيران الفلسطينيين في تقرير المصير على اساس نفس الحق العالمي للشعوب في الحصول على الحرية القومية، التي يتمتع بها الآن اليهود.
هذا هو السياق الذي فيه حركة الاستيطان تعارض بصورة جوهرية المنطق القومي للصهيونية. ففي حين أن الحركة الصهيونية استخدمت وسائل كولونيالية (استيطان برعاية دولة عظمى اجنبية) من اجل تجسيد اهداف قومية (تحقيق تقرير المصير لليهود من خلال اعتراف بحق تقرير المصير المستقبلي لعرب البلاد) فان حركة الاستيطان تستخدم وسائل وطنية (موارد الدولة، خطاب طلائعي) من اجل تحقيق اهداف كولونيالية (تعميق الاستعباد القومي للشعب الفلسطيني). في هذه النقطة مسغاف محق تماما. فالاستيطان ليس صهيونية. ولكن بصورة متناقضة الى حد ما، من اجل اثبات هذا الادعاء الصحيح بصورة ناجعة ومقنعة، يجب الاعتراف بأن مكون الكولونيالية كان وبحق من اسس المشروع الصهيوني في الماضي، وهو اساس اكل الدهر عليه وشرب، ويجب التخلي عنه بسرعة من اجل الدفاع عن الجوهر القومي للصهيونية.