جراء الحساسيات الكبيرة التي نجمت عن التوتر في العلاقات التركية الإسرائيلية في الأعوام الأخيرة، فإن التفاهم لتنفيذ مسودة اتفاق توصلت إليها طواقم من الحكومتين، بضغط أميركي قبل نصف عام، ولم تقر رسمياً بعد، يتعرض لعقبات وعراقيل في اللحظة الأخيرة.
ورغم تغير الظروف الإقليمية، وتنامي المصالح الاقتصادية والسياسية المباشرة بين الدولتين على الصعيدين الثنائي والإقليمي، تظهر انتقادات للاتفاق من الجانب الإسرائيلي قد تتحول إلى عراقيل جدية.
واتهم معارضون لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حكومته بالخضوع لإملاءات تركيا، والقبول باشتراطاتها بشأن رفع الحصار المفروض على قطاع غزة. لكن مصادر حكومية إسرائيلية أكدت أنه لم تقدم في إطار تطبيع العلاقات بين الدولتين أية تعهدات إسرائيلية لتركيا برفع الحصار عن غزة، وهو الشرط الذي كان كرره الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل بضعة أيام.
وكانت سرت تقديرات بأن تعيين يوسي كوهين رئيسا لـ "الموساد" سيعزز مساعي تطبيع العلاقات بين إسرائيل وتركيا، خصوصاً بعد دوره في هذا السياق عندما كان مستشارا لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي. وكان نتنياهو أعلن عند تعيين كوهين أن بين مهماته تعزيز وتطوير العلاقات السياسية مع الدول العربية، ومع دول "ساءت العلاقات الإسرائيلية معها".
ولعب كوهين والمدير السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية يوسي تشخنوفر دوراً كبيراً في المفاوضات التي جرت على مدى شهور طويلة مع مساعد وزير الخارجية التركي فريدون سينيرلي أوغلو في عدد من الأماكن، وخصوصاً في سويسرا. وبحسب التفاهمات فإنه عدا تطبيع العلاقات بين الدولتين تم الاتفاق على البدء في مفاوضات لمد أنبوب من حقول الغاز الإسرائيلية في عرض البحر المتوسط إلى تركيا.
وتسبب الإعلان عن الاتفاق في ظهور انتقادات واعتراضات من جانب جهات مهنية وسياسية في إسرائيل. فقد نشرت أنباء تفيد بأن المدير العام لوزارة الخارجية الإسرائيلي دوري غولد، لم يكن في صورة الاتصالات التي قادها كوهين، والتي أدت إلى الاختراق بشأن الاتفاق. وقال مقربون من غولد أن المدير العام للخارجية كان التقى مسؤولاً تركياً في روما قبل بضعة شهور للبحث في تطبيع العلاقات، ولذلك لا صحة لإخفاء الأمر عنه، رغم أن من قاد المفاوضات بهذا الشأن كان يوسي كوهين.
وحمل وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق زعيم "إسرائيل بيتنا" أفيغدور ليبرمان على التفاهم مع تركيا. وقال إن "الاتفاق مع تركيا لم يكتمل بعد، لكن الضرر السياسي حدث. إن الانتهازية لا تمثل بديلاً لسياسة حكيمة ومتزنة". وأوضح أن "أردوغان زعيم نظام إسلامي راديكالي، والأتراك يتاجرون مع داعش، وغزوا العراق خلافاً لكل القواعد في الحلبة الدولية، ولديهم توترات مع روسيا، وقد بذلنا في السنوات الأخيرة جهوداً كبيرة لتطوير وتوثيق العلاقات مع قبرص واليونان، وتوصلنا لتفاهمات مهمة حول تعاون مهم، وهذه خطوة ستضر بهذه العلاقات".
وأضاف ليبرمان أن الاتفاق مع تركيا "يضر أيضا بالعلاقات مع مصر. ولأنه يتعذر لي أن أرى أردوغان يتنازل في مطالبه بشأن غزة وكل موطئ قدم للأتراك في غزة ستأتي على حساب مصر. وأيضا بشأن الغاز هناك أهداف لتصديره، وقبل كل شيء جرت مباحثات وتفاهمات كثيرة، وهناك آمال في اليونان وقبرص بشأن تصدير الغاز، خصوصاً أن أحد الحقول مشترك بين إسرائيل وقبرص".
وانتقد زعيم المعارضة اسحق هرتسوغ طريقة إدارة المباحثات مع تركيا، معلنا "إذا كان بوسعنا التوصل للاتفاق مع تركيا قبل عامين، كان الأمر سيحقق فائدة أكبر لإسرائيل. لكن نتنياهو كعادته تباطأ وتصرف مذعوراً من ليبرمان وشركاء آخرين في الائتلاف، ولذلك فإن الثمن اليوم أعلى. وهذا أقوله عن معرفة". مع ذلك قال أن الخطوة اليوم "هي في الاتجاه الصحيح، وينبغي التأكد أن لا ينشأ لأردوغان أي موطئ قدم في غزة بسببه. ينبغي تعزيز العلاقات مع تركيا في مجالات أخرى".
ومعروف أن العلاقات الإسرائيلية ـ التركية تدهورت منذ تراجع دور العسكر في الحياة السياسية التركية، وتنامي دور "حزب العدالة والتنمية" برئاسة أردوغان. لكن الأمور بلغت ذروتها وصولاً إلى القطيعة بعد اقتحام عسكريين إسرائيليين سفينة "مرمرة" وقتلهم حوالي 10 نشطاء أتراك، وإصابة عشرات، كانوا ضمن حملة لكسر الحصار على غزة قبل خمسة أعوام. وفشلت مساع مختلفة لوسطاء، بينهم أميركيون، في تحقيق المصالحة حتى بعد اعتذار رئيس الحكومة الإسرائيلية لتركيا. وتفاقم التوتر إثر تصاعد الانتقادات التركية لإسرائيل خصوصا أثناء حروبها الأخيرة على قطاع غزة.
وتدهورت العلاقات بين تركيا وإسرائيل من مستوى "الحليف الثاني في أهميته بعد الولايات المتحدة" إلى مستوى تمثيل مصالح، ومن دون سفراء. وطالبت أنقرة بثلاثة أمور لتطبيع العلاقات، وهي الاعتذار العلني من جانب رئيس الحكومة الإسرائيلية، وتعويض عائلات ضحايا "مرمرة" ورفع الحصار عن غزة. من جهتها طلبت إسرائيل اعتبار الاتفاق نهاية المطالب، وبالتالي سن قانون يمنع ملاحقة المتهمين باقتحام سفينة "مرمرة" وإبطال الدعاوى القائمة وإعادة السفراء وما شابه.
ونفذت إسرائيل الشرطين الأولين، باعتذار نتنياهو لأردوغان وبموافقتها على إنشاء صندوق تعويضات تضع فيه 20 مليون دولار، لكنها رفضت الشرط الثالث. وحاولت وضع اشتراطات ضد الشرط الثالث، من بينها منع نشاطات "حماس" في تركيا، وإبعاد أشخاص مثل صالح العاروري الذي تتهمه بتمويل وتجنيد خلايا للعمل ضد إسرائيل. ويبدو حالياً أن الشرط الأخير، والمطالب الإسرائيلية بشأنه تمثل آخر عقبة في طريق الإعلان رسمياً عن الاتفاق. وأكثر مسؤولون إسرائيليون من رفضهم تضمين الاتفاق أي إشارة لقطاع غزة، مؤكدين أن "الكرة في الملعب التركي. فنحن اعتذرنا ونحن مستعدون لدفع الأموال. وينبغي عدم إزعاجنا بالحديث عن رفع الحصار عن غزة".
ولهذا السبب فإن الحديث يدور حالياً عن تفاهمات وليس عن اتفاق نهائي. ورغم أن الأنباء جاءت من جانب إسرائيل، إلا أن مسؤولاً تركيا أكد الاقتراب من المصالحة مع إسرائيل. ونقلت وكالة "رويترز" عن هذا المسؤول قوله أنه أيضا في العام 2013 صدرت تصريحات مشابهة، ولكن لم يتم تنفيذ الاتفاق. وأضاف أن المحادثات بشأن التعويضات كانت وصلت طريقاً مسدوداً لكن الأمر تحرك مؤخرا. وشدد على أن تركيا ترى وجوب رفع الحصار عن غزة.
حكاية التطبيع مع التطبيع
08 أكتوبر 2023