بعد مرور أسابيع على تعطيل الدوام في جامعة بيرزيت، ما زالت الأزمة تراوح مكانها، ورغم جلسات الحوار بين الطلبة والإدارة، ومحاولات التدخل من جهات عدة من داخل الجامعة وخارجها، إلا أن البيانات الأخيرة، تظهر عدم التوصل إلى حل، وأن الأزمة رغم التقدم في بعض المجالات بين الطلبة والإدارة، لم تجد طريقها إلى الحل الذي يرضي جميع الأطراف، وأن صعود الشجرة ليس مثل النزول عنها، حيث إن الطلبة، وحسب بياناتهم، ما زالوا يتشبثون بعدم العودة إلى الحياة الاعتيادية في الجامعة أو الدوام، هذا رغم أن بيان إدارة الجامعة الأخير يدعو إلى التوجه إلى الجامعة والدوام العادي اليوم (السبت)، وهذا الوضع من خلال التمترس أو عدم الاكتراث في إبداء الليونة في المواقف بين الأطراف، يمكن أن يؤدي إلى تصعيد خطير، وتدهور الأمور بشكل لا يمكن التنبؤ به، لن يعود بالإيجابيات على صالح أي طرف من الأطراف.
ومع تواصل الأزمة أو الصراع، إن جاز التعبير، وبصرف النظر عن المسميات، ما زالت جامعة بيرزيت تعاني من الشلل التام، ولم يعد يتوجه أكثر من 15 ألفاً من الطلاب وحوالى ألفين من الموظفين والعاملين والأساتذة إلى داخل أسوار الجامعة، من أجل الدراسة أو من أجل ممارسة أعمالهم، وبصرف النظر عن نوعية الاتفاق الذي سوف يتم يوماً ما بين الطلبة والإدارة، والذي سوف ينهى الأزمة، وبصرف النظر عن الآلية التي سوف يتم التوصل من خلالها إلى الاتفاق، وبصرف النظر عمن سوف يكون الرابح أو الخاسر، أو بالأدق نسبة الربح أو الخسارة لهذا الطرف أو ذاك، إلا أن هناك دروساً من الممكن استنتاجها أو استنباطها من هذه الأزمة، على أمل أخذها بعين الاعتبار في الأزمات القادمة، فإن لم تتم معالجة هذه الأزمة جذرياً، ستكون الأزمات القادمة أكثر خطورة وأشد فتكاً وضرراً.
وهناك من يقولون: إن الحل الذي سيتم التوصل إليه من الممكن أن يكون قد أجل الأزمة أو رحلها، أو أنه حل تخديري لأنه ليس الحل الجذري أو المستدام، وإنما جاء بسبب ضغوط للتوصل إلى حل وضمان عدم ضياع أو تأخير الفصل الدراسي وبالتالي الفصول القادمة، ومن الممكن أن تظهر الأزمة مع بداية كل فصل دراسي أو بداية كل سنة دراسية قادمة، وهناك من يقول: إنه لم توجد بالأصل أزمة حادة تستدعي تعطيل العمل الطويل في الجامعة، وإنما فقط هو استعراض عضلات أو تسجيل مواقف، وإثارة الأزمة ومن ثم الحوار والأخذ والرد وتدخل الجهات والوساطات، وما إلى ذلك.
ومن الدروس التي من الممكن أن تفرزها الأزمة الحالية في جامعة بيرزيت، مثلما أفرزتها الأزمات السابقة، أنه لا يمكن التفرد بالقرار في هذه الجامعة، التي اعتادت على العمل بشراكة أو بالتشاور وأخذ الرأي، بين الأطراف الثلاثة، أي بين الإدارة ونقابة العاملين والطلبة، ولم تكن ومن الممكن ألا تكون هذه الأزمة هي الأخيرة، وذلك بسبب إهمال الجانب التشاركي أو الحوار، أو التواصل الفعال بين الأطراف الثلاثة قبل اتخاذ قرارات منفردة ومن أي طرف، وهناك إضرابات أو احتجاجات خاضها العاملون وليس فقط الطلبة بسبب التفرد في القرارات أو محاولة إهمال أو تجاهل أحد الأطراف، وبالتالي وفي ظل المصلحة العامة للجامعة وبما أنها جامعة «عامة»، فمن المفترض التشاور أو أخذ الآراء في قرارات مستقبلية من قبل أحد الأطراف يمكن أن تؤثر على الأطراف الأخرى.
الدرس الآخر، هو رد الفعل العكسي والنفسي الذي يمكن أن تؤدي إليه قرارات متسرعة، ومن المعروف أن تاريخ الإضرابات والاحتجاجات وبأنواعها طويل ومتشعب في الجامعة، سواء من قبل الطلبة أو من قبل العاملين، أو كليهما، وبالتالي فإن اتخاذ قرار متسرع كرد فعل على احتجاج أو مظهر من مظاهر الاحتجاج مهما كان نوعه، لم ولن يعطي النتيجة المطلوبة، بل على العكس أدى إلى ردات فعل نفسية قوية، وإلى مزيد من تضافر الطلبة والعاملين وإلى توجيه الاتهامات وبأنواعها لإدارة الجامعة، وهذا ما يمكن أن يحدث بالضبط خلال الأزمة الحالية.
ومن الدروس أو العبر الأخرى، أهمية الحوار بين الأطراف في الجامعة، ليس فقط قبل حدوث الأزمة، بل بعد حدوثها وبشكل فعال، أي دون انقطاع وتدخل أطراف أخرى إذا أمكن، وأعتقد أن هذه الأزمة لم تكن لتطيل، حتى الآن، من الإغلاق مع كل الخسائر المتراكمة، لو كان هناك حوار متواصل وبحسن نية، وبمرونة وبأخذ مصلحة الجامعة، تضم الأطراف الثلاثة بعين الاعتبار.
ومن الدروس الأخرى المستفادة، أن الأطراف الخارجية، سواء أكانت الجهات الرسمية، أي الحكومة أو وزارة التربية والتعليم العالي، أو مؤسسات المجتمع المدني المختلفة والمتعددة، لم تكن مهتمة أو قلقة بشكل أو بآخر بأزمة الجامعة، وعلى ما يبدو أن هناك أموراً داخلية تشغلها أكثر، أو أولويات تبعدها عن التدخل المباشر في هذه الأزمة، ورغم أنني لا أعتقد أن الحكومة تتحمل وبشكل مباشر مسؤولية مالية تجاه الجامعات العامة، أي الجامعات التي يشرف عليها مجلس أمناء مستقل مسؤول عن توفير كافة متطلباتها، مثل جامعة بيرزيت، إلا أن الحكومة، سواء من خلال مجلس الوزراء أو من خلال وزارة التعليم العالي، كان من المفترض أن تنظر إلى الموضوع بنظرة وطنية أشمل وأبعد، أي أن تعمل على الأقل كمحرك أو ميسّر أو حاضن من أجل حلحلة الأزمة والدفع لإيجاد حلول سريعة ومستدامة لها ولغيرها من الجامعات، وهذا للأسف لم يحدث.
ومن العبر أو الدروس التي تم استخلاصها من أزمة إضراب جامعة بيرزيت الحالية، أنه وفي ظل دوامة تكرار الإضرابات وشلّ الجامعات، من المفترض أن تعمل مجالس أمناء الجامعات وإداراتها بالتخطيط بعيد المدى الهادف لإيجاد حلول مستدامة لقضايا مكررة تعود كل عام وبشكل مضجر، بعيداً عن قرارات أو إجراءات سريعة، وأن تضع خططاً إستراتيجية للاستثمار ومن أجل إنشاء صناديق استثمارية خاصة بها تحقق عائداً مالياً يساهم في سد عجزها المالي وبشكل مستدام، وكذلك العمل على بناء علاقات وروابط مع القطاع الخاص الفلسطيني، علاقات تحقق فائدة مشتركة للطرفين، لا علاقات تهدف إلى حث القطاع الخاص على التبرع أو الرعاية لهذا النشاط أو هذا العمل.
وكان واضحاً من هذه الأزمة أن محاولة التهميش أو التعامل الفوقي، أو الإيحاء بأن القرارات قد تمت ولا يمكن التراجع عنها، لم ينجح، بل بالعكس قد زاد الأزمة تفاقماً، والأهم أضعف الثقة بين الأطراف، وأعتقد أن هذا كان أحد الأسباب التي أطالت وما زالت تطيل الأزمة، ولو أن التعامل كان بنديّة وبروح العمل الجماعي للتوصل إلى حل وسط، لما دامت الأزمة أياماً، والجميع تقريباً يعرف ما هو الحل الذي سوف تنتجه أزمة الإغلاق هذه، وأن الحلول الوسط في النهاية هي التي سوف تسود.
وبالطبع، فإن توفير حلول جذرية لأزمات جامعة بيرزيت والجامعات الأخرى، بالإضافة إلى العمل التشاركي بين الأطراف الداخلية، يتطلب بناء التواصل الفعال مع المجتمع، كما كان قبل سنوات عديدة، وأظهرت أزمة جامعة بيرزيت الحالية تقريباً مدى عدم اللامبالاة من قبل المجتمع وأطيافه، سواء أكان القطاع العام أو الأهلي أو الخاص، إلا لمن له مصلحة مباشرة في تداعيات هذه الأزمة، ولبناء تواصل فعال مع المجتمع يتطلب العمل بروح المصلحة المشتركة، أي مصلحة الطرفين، وليس فقط أن يكون المجتمع هو المتبرع والجامعة تتلقى كما كان، ولكن بأن يتم إرساء ثقافة عمل الفائدة المشتركة، بحيث يستفيد القطاع العام أي الحكومة والقطاع الخاص والمدني من الجامعة وفي مجالات عدة، أسوة بالجامعات الأخرى في المجتمعات المتقدمة.
ومع مرور الأيام وربما الأسابيع، سوف تنتهي أزمة جامعة بيرزيت الحالية وسيتم التوصل إلى اتفاق ينهي إغلاق الجامعة أمام الطلبة والعاملين، وهو الذي أدى إلى تعطيل الدراسة والخدمات والاقتصاد المصغر الذي يحيا على ذلك، وبعد حوالى شهر من الإغلاق، سيتم التوصل إلى حل توافقي نوعاً ما، كان من الممكن التوصل إليه مبكراً، ودون الآثار السلبية على الجامعة في مجالات عديدة، ومن أهمها تهميش دورها الفاعل في المجتمع وغياب أهميتها ورمزيتها في أعين الناس والمجتمع، وانحسار دورها كجامعة مرموقة على الصعيد الأكاديمي والمجتمعي، والأهم هو غياب الاهتمام من أطراف عديدة بأهمية إيجاد حلول سريعة وعملية ومستدامة للأزمة التي تمر بها الجامعة.