احتاج الأمر لأكثر من سنة حتى يمثل مرتكبو جريمة حرق الطفل أبو خضير أمام المحكمة. الوقت استغرقته مماطلة مقصودة ومخطط لها لإعداد مسرح المحاكمة بالشكل الذي يخفف إلى الدرجات الدنيا العقوبات المحتملة على منفذي الجريمة. يحدث هذا بعد أن اعترف الفاعلون الثلاثة بجريمتهم وقاموا بتمثيل وقائعها أمام جهات التحقيق المعنية. هو ما يسوّغ أقسى عقوبة بحقهم على جريمة استثنائية في فحشها ولا أخلاقيتها ولا إنسانيتها. ومع ذلك قررت المحكمة رهن إدانة ومعاقبة المتهم الرئيسي في الجريمة المثبتة بشهادة طبية تؤكد أهليته للمحاكم، ولا يزال أمر المحاكم قيد المماطلة.
في قضية حرق منزل عائلة الدوابشة في قرية دوما، وهي لا تقل وحشية وفظاعة من جريمة حرق ابو خضير أحرق المجرمون البيت على آهليه فقتلوا الأب والأم والرضيع حرقاً وأصابوا الطفل بحروق بليغة. احتاج الأمر الى بضعة شهور حتى يتم القبض على المجرمين الفاعلين، على الرغم من تصريحات اكثر من مسؤول وأولهم وزير الحرب يعالون اكثر من مرة انهم يعرفون الفاعلين. هنا ايضا يتم اللعب على الوقت لإعداد مسرح المحاكمة والتفتيش في دهاليز القضاء والنبش بين مواد وسطور القانون ولي عنق معاني ودلالات النصوص، وتسخير حيل الإجراءات الإدارية من اجل منع العقوبة على الفاعلين او تخفيفها الى أقصى الدرجات.
وبعد كل هذه الأشهر يخرج علينا وزير الأمن الداخلي لدولة الاحتلال ليقول في مقابلة مع "إذاعة الجيش" في الخامس من الشهر الجاري "انه لم تتوفر بعد أدلة كافية تسمح بمقاضاة المشتبه بهم في قتل وحرق عائلة الدوابشة". هذا يعني ان مسرح المحاكمة لم يتم الانتهاء من إعداده بعد، والله اعلم متى يتم ذلك.
يحدث هذا في وقت تتفاخر قوى امن دولة الاحتلال بسرعتها في القبض على المناضلين وعلى المطلوبين بتهم الشك او التحوط او التخويف، وبسرعة تقديمهم للمحاكمة واستصدار الأحكام الظالمة عليهم.
مثلا جريمتا ابو خضير والدوابشة هما فقط مثالان وهما غيض من فيض على تمييز وعنصرية قضاء دولة الاحتلال بكل أجهزته وفروعه.
امام الفيض الهائل من الأمثلة من النوع المذكور أعلاه وفيض بلا حدود من الأمثلة الأُخرى بأشكال ومجالات لا تعد ولا تحصى لا تقل بشاعة وتمييزاً مبرمجاً ومقصوداً، تسقط كل ادعاءات وتبسيطات او تهوينات من يدّعون العقلانية والموضوعية التي تحاول حصر الأعمال الإرهابية الصهيونية في قلة قليلة من الإرهابيين منحرفو الفكر والتفكير، تدينهم وتضعهم في خانة الشواذ.
ان من هم وراء هذه الادعاءات يحاولون الهروب من الاعتراف، او التغطية على حقيقة ان قضاء دولة الاحتلال كما كل مكوناتها ومؤسساتها وأجهزتها تقوم في أساسها على التمييز العنصري وتعتمد الإرهاب استراتيجية لفرض وجودها وضمان استمراره ولفرض وإدامة احتلالها.
فهذا القضاء تم تأسيسه وبناؤه ووضع نصوصه القانونية منذ البدايات الأولى لينسجم مع وليخدم سياسات وقواعد بناء الكيان. ومنذ البدايات الأولى ايضا، كان هناك تمييز في القوانين بين الصهيوني الوافد المغتصب وبين ابن البلد الأصيل، وكانت هناك سياسات غض النظر والتسامح القضائي مع الإجراءات غير القانونية والتمييزية التي تقوم بها دولة الاحتلال ضد الفلسطيني وحقوقه بكافة أشكالها. ودائما كانت هناك التعديلات القانونية اللازمة لسد اي ثغرات في القانون للحفاظ على قبضة الاحتلال وتقويتها لتنفيذ سياساتها وإجراءاتها التمييزية العنصرية، إضافة الى القوانين التي تصدر عن الكنيست.
هذا التسخير للقانون هو ما يفسر درجة الحرية واللامبالاة لدى أجهزة دولة الاحتلال في تطبيق إجراءاتها العدوانية والقمعية ضد الفلسطينيين من كل نوع ولون وتعدياتها على حقوقهم، حتى تلك التي كفلتها المواثيق الدولية. وهذا التسخير للقانون هو ما يفسر مثلا:
- الاعتداء على الأراضي تحت الاحتلال والاستيلاء عليها واستيطانها رغم ان وضعها حسب القانون الدولي والقرارات والمواقف الدولية انها ارض تحت الاحتلال لا يحق الاستيلاء عليها او التصرف بها.
- منع الفلسطينيين في أراضي 1948 من السكن والإقامة في اكثر من 940 مدينة وقرية هي في معظمها فلسطينية في الأصل. إضافة الى التهجير الداخلي ومصادرة الأراضي ومنع حق البناء بالتناسب مع التوسع السكاني والتمييز في المعاملة في كل المجالات.
- سهولة اعتقال الفلسطيني بتهمه ملفقة او لمجرد الاشتباه او من باب التحوط، وغالبا لإبقاء الخوف من الاعتقال معلقا ومهددا فوق الرؤوس لأهل البلد تحت الاحتلال. لقد وصل عدد الأسرى منذ الانتفاضة الأولى 1987 فقط حوالي 850 الف مواطن فلسطيني.
وتسخير القانون هو ما يفسر "اختراع" عقاب الاعتقال الإداري بتغطية قانونية تامة، تسمح بكل التطبيقات الموغلة بالفحش والمخالفة لكل الشرائع الدولية في العدل والحرية والإنسانية وحقوق الإنسان. وهو ما يفسر أيضا، اننا لم نسمع عن ادانة ومعاقبة حقيقية لأي منتسب الى الجيش او أجهزة الأمن على فظائع مثبتة ارتكبها ضد اهل البلاد وتخالف نصوص القانون. وحتى لو حصل ذلك في حالات نادرة فسرعان ما يشمله العفو وإطلاق السراح.
ان النضال ضد تمييز وعنصرية قضاء دولة الاحتلال وتطبيقاته على كل مناطق الوطن الفلسطيني، يبقى واحدا من العناوين الرئيسية، سواء بالمواجهة المباشرة مع دولة الاحتلال، او بفضحها وتعرية تمييزها العنصري على المستوى الدولي وأمام المحافل الدولية ولدى الرأي العام العالمي ومنظماته الدولية الرسمية والأهلية الوطنية.