تومر غونين، مراسل “كلكليست” الذي كشف استخدام الشرطة لبرامج اقتحامية، لم ينل بعد باباً خاصاً به في “ويكيبيديا”. لا بد أن يأتي الباب، يجب أن يأتي. غونين، الذي لم ألتقه قط، أحدث شيئاً ما لا يحصل في أوقات قريبة في المهنة: فقد نشر قصة تؤثر مباشرة على حياة القراء الذين يخدمهم، وعلى حياة المجتمع كله؛ فقد غيّر الوعي؛ وربما الواقع. من كل متاع المهنة، تبدو المتعة الكبرى هي نشر قصة تجبر كتيبة من وجوه سياسيين مكفهرة ونجوم الحلقات التلفزيونية ومغردي الشبكة، تفسيرها وتحليلها. لكل رأيه، أما الصحافي فله وحده نبأ.
عقب منشورات “كلكليست” أجريت محادثات خلفية مع ضابطين كبيرين في الشرطة ومفتشين عامين. كل واحد نفى القصّة بطريقته. لا أعتقد أن منهم من كذب عليّ، وإن كان فليس قاصداً. نظروا إلى القضية من أعلى من علو المكتب: هذه هي البرامج التي اشتريت؛ وهذه هي القيود التي فرضت على استخدامها، وهذه هي الأذون المطلوبة: ما المشكلة؟ أما أنا فنظرت إليها من تحت، من مستوى طموح ضابط تحقيق، من إحساس القوة التي يعطيها له التطبيق. فبدونه، ليس سوى ملازم مقصي في “لاهف 433″، شخصية مجهولة من خلف طاولة مجهولة في غرفة التحقيقات؛ أما مع هذا التفضيل فهو سوبرمان. استخدامه غير واجب، ويكفي التبجح به على مسمع من يخضع للتحقيق بعرض ما يمكن للبرنامج أن يفعله.
يحاول محامو نتنياهو امتطاء هذه الموجة. كل موجة تحمل لهم مذكرة (ومعاشاً). لو لم يفعلوا هذا لقلنا إنهم يخونون وظيفتهم. إذا كانت حقوق نتنياهو كمتهم أو كمواطن قد مُست بالفعل، فإنه يستحق حماية المحكمة. حتى لو كان الثمن ضرراً شديداً للدعوى.
لكن نتنياهو ليس هو القصة.
ربما حدث خلل ما، كما يعترف مسؤولو الشرطة الآن. أما السياسة فعلى ما يرام، والتعليمات على ما يرام، والبرنامج على ما يرام. هذه هي القاعدة، أما الباقي فتفاصيل، ما يصعب عليهم فهمه، ويتكرر حدوثه، من مفتش عام إلى مفتش عام، من وزير إلى وزير، أن مواضع الخلل هي التي تصمم ثقة الجمهور بالشرطة. الثقة مبنية من التفاصيل.
قد يعمل الموساد دون ثقة جماهيرية؛ يمكن للشاباك العمل دون ثقة جماهيرية. هذان الجهازان يعرفان كيف يغطيان على نفسيهما بهالة من السرية تحت تصرفهما عند الحاجة ودون حاجة. أما الشرطة فلا يمكنها. الاستطلاع الأخير الذي نشر عرض انخفاضاً كاسحاً في ثقة الجمهور اليهودي، من أحداث أيار فصاعداً، حتى 20 ونيف في المئة (كان يمكن أن نجد بعض المواساة في الارتفاع القليل في الثقة بالشرطة في الجمهور العربي نتيجة الجهد الذي يبذله نائب الوزير يوآف سغلوبيتس، الذي تبذله السلطات في مكافحة الجريمة المنظمة. مع الأسف، لا يوجد حالياً انخفاض في أعمال القتل في إطار الثأر).
تبدو قضية بيغاسوس تفصيلاً آخر من وجهة نظر الشرطة، خلافاً لنظرة المواطن. فهي تظهر مشكلة مقلقة للعالم الغربي كله منذ زمن. فالغالبية الساحقة من سكان هذا العالم، من الطفل حتى الشيخ، بما في ذلك أنتم، القراء، وأنا أيضاً، وقعنا على عقود مع شركات تكنولوجية تضع المعلومات الأكثر حميمية لنا قيد استخدام الأغراب. لم يحدث أن قرأت ذات مرة عشرات البنود الصغيرة في هذه العقود. وأقدر بأنكم أنتم أيضاً أيها القراء، لم تكبدوا أنفسكم هذا العناء، فرحتم للبرنامج الرائع الذي أعطي لكم مجاناً. وكتبتم الجملة الأساسية التي تقف خلف كل هذا الخير: “إذا لم تدفع لقاء هذا المنتج، فهو دليل على أنك المنتج”. أنت المنتج في “فيسبوك”، في “تويتر”، في “ويز”، في “غوغل”، في “إنستغرام”. بعت روحك لمارك زوكربيرغ (وللصينيين في “التيك توك”). وحكومات العالم الديمقراطي تفهم هذا، وتبحث عن سبل للجم 4 شركات للتكنولوجيا الكبرى دون أن تمس بحرية التعبير. والمستخدمون أيضاً بدأوا يفهمون. “فيسبوك” فقدت هذا الشهر، ولأول مرة في تاريخها، مستخدمين أكثر مما ظنت. المستثمرون في بورصة نيويورك ردوا بما يتناسب مع ذلك: قطعوا في غضون يومين ربع قيمتها.
حبس أناس أبرياء بل وربما قتلوا بمعونة برنامج بيغاسوس في عدة حالات. وأناس كثر انتحروا بسبب استخدام سائب وإجرامي في الشبكة الاجتماعية. مكتشفات “كلكليست” فتحت نقاشاً اجتماعياً مهماً جداً عن العلاقات بين هاتفنا الذكي والشركات التي نستضيفها في داخله. مع كل الاحترام لبيغاسوس وNSO، فإن هذا النقاش مهم.