بعد أن حطّت تركيا في تل أبيب ..!!

أكرم عطا الله
حجم الخط

لا شك أن الاتفاق التركي الإسرائيلي المفاجئ أحدث صدمة في أوساط حركة حماس، فقد راهنت جدياً في السنوات الأخيرة على الرئيس التركي في رفع الحصار عن قطاع غزة، ولم تتصور يوماً أن رجل الإخوان المسلمين الذي قدم التجربة الأبرز في تاريخ الحركة والذي يملك إمكانيات إقليمية هائلة سيرضخ للشرط الإسرائيلي بوقف كافة نشاطات الحركة في بلاده وطرد القيادي فيها صالح العاروري.

المفاجأة لدى حركة حماس وجدت تعبيرها بالصمت تجاه الحدث المفاجئ، ولم تجد وسائل الإعلام تعقيباً لحركة حماس سوى صفحة وزير الصحة الأسبق باسم نعيم، الذي عبر عن شعور الذين راهنوا كثيراً على الرئيس التركي، بقوله: «إن خبر ترميم العلاقة بين تركيا وإسرائيل ليس خبراً سعيداً»، بل ربما الخبر الأسوأ الذي تلقته الحركة خلال العام الجاري، فالاتفاق يشير بوضوح إلى أن تركيا باعت حليفها الفلسطيني مقابل المصالح التركية مع إسرائيل ولا قراءة غير ذلك. ربما أن خطأ الحركة هو المبالغة في مراهنتها على الرئيس التركي وعدم قدرتها على إجادة قراءة السياسة بتعقيداتها وتشابكاتها وغلبة المصالح في العلاقات، وذلك مرده إما لأن الحركة الفلسطينية حديثة العهد بالسياسة تصدق الشعارات وتفترض حسن النوايا أو لأن الارتباك الذي أصاب موقفها في السنوات الأخيرة أثناء اضطراب الإقليم جعل الرؤية لديها أكثر تشويشاً وضبابية.

لم يتصور أحد أن القضية الفلسطينية وحركة حماس بشكل خاص ستدفعان ثمن إسقاط طائرة السوخوي الروسية بعد أن وسعت تركيا دائرة خصومها بل أعدائها وخسرت كل جيرانها وأصدقائها، وحشرت نفسها في زاوية لم تبق سوى إسرائيل ملجأها الأخير نتاج مجموعة من السياسات الطائشة والمغرورة قادها الرئيس التركي.

هكذا حطت تركيا رحالها لدي حكومة نتنياهو بعد كل محاولات أنقرة الابتعاد عن إسرائيل والصدام معها لكن السياسات الخاطئة عادة ما تقود إلى كوارث. لكن تركيا التي كانت تعرف تماماً ما تريد حاولت التذاكي أمام مصالح دول وقوى أكبر بكثير منها، إذ يشكل هروبها نحو إسرائيل مساراً طبيعياً لسياق أحداث ومغامرات ثبت أن أنقرة لم تجر حسابات دقيقة لها أو أنها غامرت بالجوكر في لعبة السياسة الدولية ومقامراتها فخسرت وخسرت معها أيضاً الأوراق التي كانت تراهن عليها والتي راهنت كثيراً على حزب العدالة والتنمية الذي سيصوت ممثلوه البرلمانيون على إسقاط التهم عن ضباط إسرائيل الذين قتلوا الشهداء الأتراك.

المسألة أبعد من علاقات وكيمياء ، ففي السياسة لا متسع للعواطف والمبادئ ومن هنا صدمة الذين يقيسون السياسة بمقاييس الدين، ولم تذهب تركيا بمغامراتها الفاشلة في سورية وهي التي أثارت النقمة عليها من أجل السوريين أو دعماً للسنة وإنقاذهم من براثن الأسد وإيران.

هذا كلام لا تعرفه المصالح وخصوصاً دولة عضواً في الناتو، بل إن الأمر أبعد بكثير من ذلك الكلام الذي كان يساق في الإعلام والذي صدقه الساذجون والبسطاء والتحقوا به بل وأصبحوا جزءاً من لعبة المصالح الكبرى دون أن يعرفوا.

فالصراع في سورية التي كانت الصديق والجار لتركيا هو صراع الأنابيب كما أطلق عليه الباحث محمد جميل، والقصة بدأت في التسابق على مد خط الغاز، حيث إن الموقع الجغرافي لسورية يعطيها امتياز مرور كل الخطوط عبرها لتصل إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا.

قطر رأس حربة الصراع في سورية كانت قد اتفقت مع السعودية وتركيا على مد أنابيبها نحو تركيا عبر سورية وعندما رفضت سورية أعلنت عليها الحرب، الحرب التي اتخذت مبررات الديمقراطية والحرص على الشعب السوري وتحريره وإقامة العدل المفقود.

سورية اتفقت في 2011 على مد أنبوب الغاز الإيراني عبر العراق وسورية ويمكن أن يصل للبنان ومن ثم أوروبا، فقد كان الخط القطري السعودي التركي يمثل ضربة للقوة الروسية التي تتحكم من خلال ما تورد لأوروبا بالتأثير على بعض السياسات فيها.

من هنا كان الروسي يضرب بقوة إلى جانب حليفه السوري الذي اشتم رائحة المؤامرة على روسيا وإضعافها لصالح الناتو والولايات المتحدة ورفض التواطؤ، ومن هنا عاقبت قطر والسعودية وتركيا الرئيس السوري وأعلنت عليه الحرب.

الهدية الكبرى في كل تلك المغامرات التركية أعطتها أنقرة لتل أبيب، ففي وسط كل تلك الصراعات على الغاز تنزاح كل مصالح الدول وتتحقق المصلحة الإسرائيلية، إذ يقضي الاتفاق بين أنقرة وتل أبيب بتوريد الغاز الإسرائيلي لتركيا بل وأبعد حيث تربح إسرائيل معركة الأنابيب على كل جثث العرب التي قدمت قرباناً لها وبالمساعدة التركية ليتم الاتفاق على مد أنبوب الغاز الإسرائيلي إلى تركيا ومنها إلى أوروبا وسيكون لهذا الاتفاق تداعياته الدولية الكبيرة.

فإسرائيل التي ستصبح مصدراً هاماً للغاز إلى أوروبا ستصبح ذات تأثير أعلى على القارة والاتحاد الأوروبي، وهو آخر ما كان ينتظره الفلسطيني بكل مكوناته وهي ضربة كبيرة للقضية الفلسطينية وبالمقابل إضعاف للنفوذ الروسي على أوروبا وإضعاف العرب بمجموعهم حتى قطر والسعودية ناهيك عن إيران، فإسرائيل هي الرابح الوحيد من كل تلك المغامرة والسياسات.

والأسوأ هو أن هذا الاتفاق يتم في ظرف أكثر حساسية للقضية الفلسطينية، إذ تمر إسرائيل بمرحلة من أسوأ مراحل علاقاتها الدولية حيث الانكشاف الكبير الذي أحدث قدراً كبيراً من النفور في الموقف الدولي تجاهها من مقاطعات وعزلة ومواقف مضادة، لقد راهن الفلسطينيون على هذا الانزياح الذي شكل في الآونة الأخيرة ورقة قوة يمكن البناء عليها في عزل إسرائيل والضغط عليها.

ووسط تلك الأجواء يقوم الرئيس التركي بالإفراج عن إسرائيل بهذا الشكل وترميم علاقاتها والانفتاح عليها بدل محاصرتها، ففي هذا ما يستدعي مراجعة كبيرة في كل ما حدث في الإقليم من صراع واصطفافات لمحوري الصراع في سورية.

المراجعة الكبرى لدى حركة حماس التي اختزلت علاقاتها الإقليمية بتركيا وقطر وكيف؟ ولماذا؟ ها هي تركيا تهوي، تضرب في سورية وتهبط في إسرائيل. كل مراهنات الحركة في السنوات الأخيرة كانت معاكسة، وآن الأوان للمراهنة على الداخل الفلسطيني، فهو الأقل كلفة والأكثر جدوى والأقل معاناة لشعب دفع ثمن قراءات حسن النوايا في أحسن الأحوال وحداثة التجربة، ولعل في المراجعة ما يحقق الفرج لغزة التي انتظرت أن ترفع تركيا عنها الحصار وإذ بها ترفع الحصار عن إسرائيل..!!

Atallah.akram@hotmail.com