“ما فيش أحلى من عرب معهم ملايين/ ونسيوا شعب انتكب ونسيوا فلسطين”: نوعم شوستر، مغنية إسرائيلية “ساخرة”.
أكاد أجزم، وإن كان الكلام وليد المخيلة، أنّ كلّاً من الرئيس الإسرائيلي، إسحق هرتزوغ، ووزير الدفاع، بيني غانتس، كانا يرقصان على أنغام الأغنية الإسرائيلية الساخرة، وهما متجهان، الأول إلى الإمارات والآخر إلى البحرين، لتعزيز اتفاقات جديدة لخدمة المشروع الأمني الصهيوني، وغرز خناجر مسمومة في خاصرة فلسطين والأمة العربية. ويحق لهما الرقص فرحاً، فأسلافهما رقصوا على الأشلاء الممزّقة لضحايا مجازر ولادة الدولة الصهيونية العنصرية، فكلّ ما ينشدانه وحلما به أصبح ماثلاً أمام أعينهم؛ حكام عرب لا تقلقهم جثث أو أوطان مسروقة، فقد أصبحوا ليس أكثر من ببغاء لمعلم أميركي أقنعهم أنّ قمة الحضارة والتمدّن هي عدم الالتفات إلى الماضي، مع أنّ الماضي حاضرٌ ينزف أمامهم.
لا غرابة في أن يحتفي المستعمر بحمام دم السكان الأصليين، فمشروعه يعتمد على جعل الدماء شلالاً. لكن؛ أن ينضم للمستعمر من هم تحت سطوته للمشاركة في فرحةٍ لا يفهمونها، في بلاهة وبلادة عجيبتين، ليس أكثر من مشهد يثير الشفقة، لأنّ هؤلاء لم يفهموا أنّهم ليسوا شركاء، بل هم تابعون، لا فكرة أو تخيل لديهم أنّ من اغتصب فلسطين لا يقبل هوية أي أرض عربية ولا بشعوبها، فالتمادي في إرضاء المستعمر لا يجعل منهم أحراراً أو أسياداً.
المشهد أكثر من محزن، وأكثر من مقرف، وأكثر من خطير، لكنّه لا يشكل سوى جزء من المشهد الكبير، الذي هو أكبر من مجموعات المنوّمين في غيبوبة حبّ الاستعمار، فالعالم كله بدأ ينهض من أجل فلسطين، فاحتفالات استقبال الرئيس الإسرائيلي في أبوظبي لن تبرّئ هرتزوغ من جرائم العنصرية، مهما بلغت قيمة بذخ الاحتفالات، فقد علا صوت تقرير منظمة العفو الدولية الذي يدين إسرائيل بارتكاب جرائم الفصل العنصري على أيّ ضجيج. وأصواتٌ تنادي باعتراف العالم بالنكبة الفلسطينية تكاد تطغى على مسلسل الخنوع الذي يعيشه العالم العربي إرضاءً لأميركا.
بإمكان الترسانة العسكرية الإسرائيلية أن تقتل الأجساد، لكنّها لا تستطيع هزيمة إرادة شعب حي. وما لا تفهمه الدولة الصهيونية وحليفاتها الجديدات في المنطقة العربية، أنّ صرخة الحق تتردّد في كلّ أنحاء العالم مدوية، وأنّ نضال الشعب الفلسطيني في سبيل الحرية معدٍ، ولا يحتاج طائرات أو وسائل نقل أو لمس أو مصافحة ليصل أحرار العالم، وهذا ما يحدث في هذه اللحظة، فالتضامن الأممي ليس فيروساً قاتلاً، بل قبلة حياة.
ربما سرح خيال الكاتبة كثيراً، فالعالم في النهاية مبنيٌّ على القوة، والاتفاقيات التي وقعها الإسرائيليون في كلٍّ من البحرين والإمارات بعيدة عن عالم العدالة والحرية، بل إنّها كلمات وأفعال، تزيد المحتل قوة، وتجعله حارسا على بوابة الخليج، حارساً للمصالح الأميركية والإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. أي أنّها احتلال غير مرئي، لكنّه حقيقي، فهو حائط جديد يجري بناؤه لحصار كلّ العالم العربي، وهو متكاملٌ مع كلّ الاتفاقيات الموقعة سابقاً والتي ستوقع لاحقاً. وليس هذا حديثاً عن نظريات مؤامرة، فكلّ الاتفاقيات المعلنة شديدة الوضوح، فالمنطقة أصبحت جزءاً من حلف أمني عسكري إسرائيلي أميركي، وفقاً لاتفاقيات تنزع عن إسرائيل صفة العدو، مستغلةً الهلع الخليجي من إيران، وكلّها مرتبطة باتفاقيات تجارية صناعية تربط الموانئ التي تسيطر عليها إسرائيل بموانئ خليجية، يجري تقييدها باتفاقيات مع إسرائيل. ولا ينتبه المنوَّمون بحبّ إسرائيل إلى أنّ كلّ المشاريع هي أدوات لتقوية الموانئ الإسرائيلية ولتخدمها. وإذا كان هذا الحديث عن سيادة منقوصة، فقريباً لن تكون هناك أيّ سيادة، اسمية أو فعلية أو حتى رمزية، فالبنية التحتية شبه جاهزة وبدأ بناؤها، وهي لا تقتصر على مشاريع خليجية، بل هي مجموعة مشاريع بمثابة شبكة متكاملة، بدءاً بالغاز “الفلسطيني المسروق”، وسكة الحديد في طريقها إلى عواصم عربية، ومشاريع تبادل الطاقة والمدينة الصناعية، وهي المشروع الاستراتيجي الذي سيربط كلّ خطوط التجارة والطاقة والمواصلات بين إسرائيل وكلّ المنطقة العربية.
لكنّ ما نشهده معركة شرسة. صحيحٌ أنّ هناك نهوضاً عالمياً، أضاءت شرارته المقاومة الفلسطينية في كلّ أشكالها، وأطلقتها عالمياً حركة المقاطعة ضد إسرائيل (بي دي إس)، لكنّ الهجمة الأميركية الإسرائيلية التطبيعية تزداد شراسة. لذا تحتاج المعركة صبراً ونفساً طويلاً واندماجاً واشتباكاً، كلّ منا بحدود ما يستطيع، مشحوذين بشجاعة الشعب الفلسطيني وتضحياته، خصوصاً أنّ مظاهر الاستفزاز من الإسرائيليين والمطبّعين شديدة الاستفزاز، وقد تصيب شرائح من الشعوب العربية بالإحباط، وإن كانت مظاهر الوعي لم تخفت، ونشهد بطولاتٍ من شباب يافعين يضحّون بجوائز عالمية، رافضين الخضوع للاستسلام وخذلان الشعب الفلسطيني.
الإحباط هو العدو الأكبر، فلا هزيمة من دون تغلغله فينا، فلتكن منارتنا مظاهر المواجهة اليومية بين الشعب الفلسطيني، دويّ الملاعب الجزائرية والمغربية وغيرها وهي تصدح بحرية فلسطين، وذلك كلّه بداية، لأنّ المواجهة تتطلب وعياً وحملاتٍ ضد كلّ المشاريع التطبيعية من دون هوادة، حتى لا يصبح الاحتلال وقبوله “طبيعياً”. هنا، قد يكون هناك تكرار في الحدث، لكنّه مقصود وضروري، فالخطر ليس بعيداً، ويستهدفنا جميعاً.
صحيحٌ أنّ المغنية الإسرائيلية، شوستر، قصدت السخرية من تهافت العرب على إرضاء إسرائيل، لكنّها تعكس حقيقة هؤلاء، فحتى العدو لا يحترم الخنوع، لكنّ الخنوع ليس الصفة الغالبة للشعوب العربية، أو أيٍّ من شعوب الأرض، بل هو صفة يفرضها الحاكم بسلطته وطمعه واستبداده على شعوب مسلوبة الحرية. لكن، كما في كلّ تاريخ الشعوب المستعمَرة صوت الحرية والكرامة هو الأعلى والأبقى، تبقى كلمات الشاعر الفلسطيني محمود درويش الجواب: “أيها المارّون بين الكلمات العابرة. احملوا أسماءكم وانصرفوا. واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا”.
عن “العربي الجديد”