إسرائيل دولة أبرتهايد… ورطة

2222.PNG
حجم الخط

بقلم:رامي منصور

 

 

نميل في الصحافة إلى الاعتقاد بأنها تدخل في أزمة حقيقيّة، حتى وجوديّة، إذا ما تفوّق المجتمع بشكل عام، ثقافيًّا ومعرفيًّا وتكنولوجيًّا، على العاملين في حقل الصحافة أو القائمين عليها. والتفوّق لا يعني الاستخدام الأداتيّ أو الاستعمال للتقنيات مثلًا، بل إلى مستوى “الإنتلجنتسيا” الذي يُقاس بمعايير مختلفة، منها مستوى الثقافة والفِكْر، والتعدديّة وحريّة المعتقَد والاعتقاد… إلخ، إذ يُفتَرض أن تكون الصحافة مُشَكِّلةً للوعي الوطنيّ والقوميّ وللهويّة، وجزءًا من صيرورته، ولكنها في الوقت ذاته يُتوخّى منها أن توسّع حدود المعلومة والمعرفة، وتوسّع مناحي التفكير من خلال تبنّي التعدديّة وحريّة المعتقَد والتعبير عن الرأي. أي باختصار؛ إن الصحافة ليست مرآة للمجتمع، بل مرآة همومه التي قد يغفلها، مرآة مستقبله، ولكن في الوقت نفسه، هي رافعة ودافعة وتملك من الثقافة العامّة والسياسيّة ما يؤهلها للنقد، وهدفها منع الركود المجتمعيّ والسياسيّ، أي السكون والتأخُّر، بل وسيلة من وسائل التطوير والتحديث والعَقلَنة وتبادُل الآراء كجزء من حيّز عام.

عندما يسبق المجتمع الصحافة تحصل المصيبة، ويصبح همّها منافسَةَ الرائج والشائع في شبكات التواصل الافتراضيّة. تنقاد بدلا أن تقود، وتصبح بلا فائدة، وتصبح هدّامة لأنها بدلا من أن ترفع فإنها تهبط، وتدخل في سباق التفاهة والرذيلة. لكنّ الأهمّ أنها تصبح فائضة عن الحاجة، لأنها تخلّفت عن الواقع – المجتمع – البشر، ولا تحمل رؤية. قد تحمل أيديولوجيا ويكون هذا سرَّ تخلّفها. تتحول إلى وسيلة ترفيه واستقطاب أو تعصُّب على كافة المستويات. حاليًا، المجتمع عندنا يسبق الصحافة في عديد من الجوانب، وهذه معضلة حقيقيّة لا تخصّ الصحافة، بل تعكس أيضًا أمورًا كثيرة عن المجتمع نفسه.

السياسة

كما في الصحافة، يصِحّ ذلك في السياسة؛ فإذا ما تخلَّف الخطاب السياسيّ عن الواقع، يتحوّل من قائد إلى مَقود. يعيش بقوّة الدفع الذاتيّة، يصبح متخلّفًا ولا يملك أجوبة عن أسئلة الواقع الحقيقيّة – الجوهريّة، وبذلك تتفتّت شرعيّته رويدًا رويدًا، لأنه ليس ذا صِلَة بالواقع، فأُفُقه ضيّق جدًا وأدمَن تكرار الممارَسة. والأمر يتعلّق بالإرادة السياسيّة. هل لدى حامل الخطاب إرادة سياسيّة لتغييره والنظر إلى الواقع والمستقبل بعينين محدّقتيْن؟ هل لديه الجرأة والشجاعة والقوّة لفعل ذلك؟ قد تكون غالبًا الإجابة بالسلب، لأنّ الزمن تبدل والواقع تغيّر “يا رفيق”!

سيقول لك الحركة الوطنيّة في جَزْر! الناس تغيّرت، المؤامرة أكبر ممّا نحتمل… ألم تكن تعرّف ذلك من قبْل؟ سيقول: بلى أعرفه، وكتبنا عنه لكنني أنكرته وغرقت في الممارسة، في التكرار، في النسخ، في التقليد، في النرجسيّة، في التآمر، في الركون والجمود، في الشعبوية…

لذا، فإنّ تقرير منظّمة العفو الدوليّة (أمنستي) الذي قال بشكل دامغ إنّ إسرائيل تمارس الأبرتهايد من البحر للنهر، أي ضدّ المواطنين العرب فيها أيضًا -وهذا نعلمه جميعًا- من شأنه أن يُدخِل الحركات السياسيّة في الداخل، البرلمانّية وغير البرلمانيّة، والإسلاميّة وغير الإسلاميّة، في ورطة الخطاب والممارَسة، فإذا أجمعتْ هذه الحركات والأحزاب على أن إسرائيل دولة أبرتهايد وتمارسه على مواطنيها العرب، فما العمَل إذا كنا نعيش في استعمار استيطانيّ يخدمه نظام فصل عنصريّ – أبرتهايد؟ وكيف نرفع عنا هذا الاستعمار وهذا النظام عنا جميعًا؟ الإجابة لا تتعلّق بالمشاركة البرلمانيّة من عدمها. الإجابة عن هذا السؤال تتعلّق بأُفُق الممارَسة وليس بالممارسة الفوريّة، فنظام الفصل العنصريّ الصهيونيّ تمكَّن من تشتيت الفلسطينيين داخليًّا وخارجيًّا، وتحويلهم إلى “مجموعات مصالِح” مختلفة، لها قضايا وأولويّات متفاوتة. أي أن ممارساته تتفاوت من حيث الآليات والتطبيقات، ولكنها ذات مبدأ ناظم واحد. الهيمنة والضبط العرقييْن من خلال الطرْد أو الفصل أو القتل.

وأزمة حركاتنا السياسيّة لا تنفصل عن الأزمة الوطنيّة الفلسطينيّة العامّة، على صعيد المشروع (الوعي، الفِكْر، الخطاب) والتمثيل. لكن تكرار منظّمات دوليّة ومنها إسرائيليّة، وصفَ إسرائيل بأنها نظام أبرتهايد، يتطلّب من هذه الحركات استجابة على المدى القصير والطويل، ويتطلّب إجابة سياسيّة تُترجَم بالممارَسة. أي أنه إذا كانت إسرائيل دولة أبرتهايد، فكيف ينعكس ذلك على ممارساتنا السياسيّة (المشاركة البرلمانيّة لم تشكِّل مشكلة أو معضِلة أو قضيّة خلافيّة بين السود بشكل عام، لأنها لم تكن مطروحة لأسباب معروفة مختلفة لا مكان لطرحها هنا). كيف ينعكس ذلك على سلوكنا في مستوى المواطَنة والإجراءات اليوميّة والقانونيّة، مثل العَمَل والتعليم… إلخ. لا أتوقَّع أجوبة فوريّة، ولا أودّ الخَوْض في النقاشات الحديّة، إما كذا وإما كذا، إما العصيان وإما التسليم، وإما الدولة أو الدولتين؛ هذه نقاشات عقيمة محكومة بالأيديولوجيا وليس بالواقع، لكنها تستخدمه حين يتناسب مع أيديولوجيتها. فالواقع الذي شكّلته الصهيونيّة معقَّد ومركّب أكثر بمرّات من واقع جنوب إفريقيا، ولا يتحمّل الحديّة، إما المواطنة وإما الانتماء الوطنيّ، إما العيش تحت حكم إسرائيل أو حكم “فتح” أو “حماس”. والخوض في هذه المعضلات ليس مفيدًا بالضرورة، لأنه قد يُستخدم أيضًا من المتصهينين.

لا تملك كل الحركات هذه أيّ أجوبة. بيمينها وبيسارها، فما ثقافتها بالضبط؟ أيّ ثقافة ووعي وفِكْر تحمِل؟ مستوى ممارستها يعكس مستوى تلك. في اعتقادي، إن اللعبة ستستمر كما هي. الدليل: أصدر أقدم الأحزاب عندنا بيانًا في أعقاب تقرير “أمنستي”. أدان موقف واشنطن من التقرير، دعا للضغط الدوليّ على إسرائيل، وأكد على ضرورة “تعزيز الشراكة الكفاحيّة الحقيقيّة العربيّة اليهوديّة”. عن “عرب ٤٨”