كانت الساعة تقريباً التاسعة مساء عندما كانت سيارة تقلّ أبناء عائلة فلسطينية تسافر على الشارع قرب مدخل مستوطنة “عوفرا”. أمر عدد من الجنود، كانوا في المنطقة، السائق بالتوقف على جانب الشارع. “قاموا بسحبه من السيارة، وبدؤوا يضربونه بشكل جنوني”، قال شاهد عيان على الحادثة وهو جندي إسرائيلي، “في مرحلة معينة بدأ السائق بالارتعاش على الشارع وشاهدوا أنه يفقد وعيه”.
الجنود، الذين يدور الحديث عنهم، هم من كتيبة “نيتسح يهودا”. هذه ليست حادثة عمر عبد المجيد أسعد ابن الـ 80، الذي توفي، الشهر الماضي، بعد تقييده من قبل جنود هذه الكتيبة. الحادثة التي نصفها هنا حدثت قبل تسعة أشهر من ذلك، في نيسان 2021. وفي هذه المرة لم تنته بالموت. وهي أيضاً لم تنته باتخاذ أي إجراءات ضد الجنود المتورطين. هذا مثال آخر من بين أمثلة كثيرة على طريقة العمل المستقلة لوحدة يبدو أنّ لا أحد في الجيش يتحكم بها. تابعت “هآرتس” الكثير من الحالات في السنوات الأخيرة، التي تبين كيف أن كتيبة “الناحل” الأصولية تحولت إلى نوع من الميليشيا المستقلة التي ترتدي زي الجيش الإسرائيلي العسكري، لكنها ليست تحت إمرته ولا تخضع لتعليماته.
الحادثة في نيسان 2021 ظهرت للوهلة الأولى وكأنها معيارية نسبياً، الشك بوقوع عملية دهس. هكذا فسر جنود “نيتسح يهودا” إيقاف السيارة على الشارع من البداية. ولكن هذا تعقد. حسب شهود العيان لم يكن هناك أي شيء مشبوه في صورة السيارة. إضافة إلى ذلك، بعد مرور نصف ساعة على الحادثة قالوا في “الشاباك” والشرطة وقيادة المنطقة الوسطى: إن الحديث لا يدور عن عملية دهس. هذا لم يغير الكثير على الأرض. “كان هناك أشخاص حاولوا علاج الفلسطيني الذي كان في وضع سيئ بسبب الضرب”، استرجع الجندي من وحدة أخرى والذي كان في المكان. “استدعوا ممرضاً من نيتسح يهودا كي يساعد في العلاج، لكنه رفض بذريعة أن هذا مخرب. حتى الماء الذي طلبوه منهم من أجل علاج الفلسطيني رفضوا إعطاءه لهم. كانت هذه حادثة جنونية”. وحسب قوله كان يوجد في المكان الكثيرون من قادة نيتسح و”لم يتحدث أي واحد منهم”.
فقط بعد مرور ساعتين على لحظة الاعتقال تم إطلاق سراح السائق وأبناء عائلته. وقد تم نقله بسيارة إسعاف فلسطينية لتلقي العلاج. أرادوا مغادرة المكان بسيارتهم. ولكن حينها اكتشف أبناء العائلة بأن مفتاح السيارة اختفى. توجهوا للجنود الذين قالوا لهم: إنهم لا يعرفون أي شيء عن ذلك. “بحثوا عن مفتاح السيارة أكثر من ساعة”، قال شخص كان متواجداً في المكان. “فقط بعد ساعة ونصف الساعة، عندما وصل نائب قائد الكتيبة، وبدأ بالتفتيش تم إيجاد المفتاح في موقعهم قرب الغرف. ساعة ونصف الساعة وهم يكذبون على العالم، وهذا لم يهمهم أبداً”.
أشخاص يعرفون سلوك الكتيبة ربما سيصابون بالصدمة من تفاصيل الحادثة، لكن ليس من مجرد حدوثها. ضباط وقادة في السابق والحاضر، ممن خدموا في “نيتسح يهودا” أو يعرفون سلوكها، شهدوا بأنه طوال السنين تبلورت كتيبة وضعت لنفسها منسوباً أخلاقياً وقيمياً ومهنياً مختلفاً عن المنسوب الذي وضعه الجيش لباقي جنوده، وكل ذلك مع تجاهل قيادة الجيش.
“كنا نخرج لنشاط روتيني في القرى، وفجأة كان أحد الأصدقاء يقرر أنه سيلقي قنبلة صوت على أحد البيوت أو على سيارة مسافرة”، قال أحد جنود كتيبة نيتسح يهودا الذي تسرح قبل سنتين تقريباً. “هذا بالأساس من أجل التسلية ومن أجل القصص التي نسمعها عما فعله قدامى الكتيبة. من المهم لمن هو في الكتيبة الإظهار طوال الوقت بأنهم قوة مختلفة، وأننا خلافاً لجميع الألوية، التي تتبدل كل بضعة أسابيع، نعيش في هذا القطاع ونعرف ما يجب فعله”.
في الفترة التي انقضت منذ أن تسرح هذا الجندي تراكم عدد غير قليل من الشهادات التي تؤكد على أقواله. على سبيل المثال قرية سنجل قرب رام الله. هناك أبلغ الفلسطينيون عن قوة لنيتسح يهودا اقتحمت بيتاً فلسطينياً من خلال تهشيم النوافذ وتهديد أبناء العائلة بالسلاح. “كان هناك تحقيق في هذه الحادثة. كل السلوك هناك لم يكن سليماً من ناحية عملياتية”، قال مصدر في قيادة المنطقة الوسطى. “بعد انتهاء التحقيق تم توضيح التعليمات والإجراءات للمقاتلين”. تحقيق آخر، توضيح آخر، حادثة أخرى، لكن دون عقوبة.
تذكر مصدر أمني نقاشاً جرى في قيادة المنطقة الوسطى قبل سنتين، بعد حادثة إشكالية أخرى تورط فيها جنود هذه الكتيبة. هناك تم عرض وثيقة داخلية كتب فيها أن “معظم جنود الكتيبة ينتمون لعائلات من سكان المنطقة. الأمر الذي يصعب عليهم التفريق بين مواقفهم الشخصية والمطالب العملياتية لقادتهم”. في النقاش تم طرح سؤال: ما هو الحل لما يحدث هناك؟ وكيف سنواصل قدماً؟ ضمن أمور أخرى تمت مناقشة حل الكتيبة ودمج جنودها في أطر الجيش.
“فهمنا بسرعة أنه سيكون حل الكتيبة كإعلان الحرب بالنسبة لقيادة المستوطنين”، قال المصدر المطلع على تفاصيل النقاش، وأضاف: “رؤية المستوطنين في المنطقة هي أن هذه الكتيبة تنتمي اليهم. وأنها قوة تعمل من أجل الاستيطان”. يبدو أنّ لا أحد في الجيش يعترض على ذلك. “في الأيام العادية يدخل رؤساء قيادة المستوطنين إلى الكتيبة بصورة حرة ويتحدثون مع الجنود”، قال المصدر. يدخل حاخامات إلى موقعهم، ويتجولون بصورة حرة، ويعطون دروساً، ويتحدثون مع الجنود عن أحداث عملياتية، هذا نوع من الميليشيا. لا يدور الحديث فقط عن جهات أمنية وصلت إلى هذا الفهم، في المنشور الذي نشره في الشهر الماضي عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش تظهر العلاقة الأيديولوجية بين سكان المستوطنات والبؤر الاستيطانية والجنود الذين يتجولون فيها. “بصفتي مستوطناً أقول: إن المستوطنين يكونون سعداء في كل مرة يتم فيها وضع نيتسح يهودا في قطاعهم”، كتب. “هذه الفترة تتميز بالهدوء والأمن النسبي على الطرقات؛ لأن أصدقاءنا هناك يعرفون بالضبط مهمتهم، من هو العدو ومن هو الأخ، لا تختلط الأمور عليهم، يسعون إلى المواجهة، ويخلقون ردعاً”.
البصق على رجال الشرطة
في حزيران 2021 اندلعت مواجهات بين مستوطنين وفلسطينيين قرب بؤرة “عوز تسيون” الاستيطانية. عندما وصل جندي من حرس الحدود للفصل بينهم، كان جنود من نيتسح يهودا في المكان، وقرروا التدخل بالصوت. “يجب عليكم التنكيل بالجندي الآن”، صرخوا على المستوطنين، وشجعوهم على المس به. مرت بضعة أيام وفي هذه المرة كانت بؤرة المواجهة بين المستوطنين ورجال الشرطة عيمق شيلا. “بدأ جنود كتيبة نيتسح يهودا يصرخون على الجنود وقوات الأمن: “لا تقوموا بتجريم الجنود”، “خونة”، “يقومون بإخلاء اليهود”، قال مصدر عسكري مطلع على تفاصيل الحادثة. “كان هناك جندي من الكتيبة بصق على قوات الأمن”.
أحياناً لا يدور الحديث فقط عن تبادل الكلمات. “في نهايات الأسبوع أكثر من مرة جاء جنود “نيتسح يهودا” وشاركوا في أحداث عنيفة ضد فلسطينيين أو جهات أمنية وصلت إلى المكان”، قال ضابط احتياط خدم في هذا القطاع في السنتين الأخيرتين. “في إحدى عمليات إخلاء البؤرة الاستيطانية “عدي عاد”، خرج صاحب المبنى نحو رجال الشرطة، وقال: إن ابنه ضابط في نيتسح يهودا، وإن المبنى الذي أقيم هو من أجل زفاف ابنه. توجد هناك حالات غير معقولة”.
“يوجد للأيديولوجيا السياسية لجنود نيتسح يهودا دور كبير في سلوكهم”، قالت جهات أمنية تحدثت مع الصحيفة. “كان هناك نشاط في قرية قرب رام الله”، قال أحدهم. “في الإحاطة قيل للجنود: إنهم سيمرون في مناطق زراعية لفلسطينيين، في أراض فلسطينية، لذلك يجب التصرف وفقاً لذلك”. وحسب أقواله “حينها قام أحد قادة نيتسح يهودا وقال أمام جميع المشاركين: هذه أرض شعب إسرائيل، وستتم إعادتها لشعب إسرائيل قريباً”. وحسب أقوال هذا المصدر لم يتطرق أحد لهذه الأقوال وكأنه لم يحدث أي شيء.
“يجب عدم التعميم على جميع من يخدمون في هذه الكتيبة”، قال مصدر أمني كبير. “لكن أيضاً يجب قول الحقيقة. فعدد كبير منهم أشخاص يأتون من حالة ضائقة أو صعوبة تواجه عائلاتهم. بعضهم تجندوا بضغط من العائلة من أجل منعهم من التجول في القدس أو المشاركة في أعمال الشغب في البؤر الاستيطانية”. وحسب قول هذا المصدر هم يعيشون في بؤر استيطانية غير قانونية، ويتجندون ولديهم موقف، ويتخذون موقفاً واضحاً في الصراع: “هم لم يأتوا من أجل تغيير رؤيتهم، بل في بعض الحالات يكون التجنيد هو أسلوب لتجسيد أيديولوجيتهم على الأرض”.
أحياناً لا يكون الأمر أيديولوجيا، بل مجرد معايير إشكالية. هكذا كان الآمر مثلاً عندما تم استدعاء جنود نيتسح يهودا إلى ميدان “يهودا” و”السامرة” على مدخل رام الله في كانون الثاني 2021 بسبب الإخلال بالنظام. انتهى هذا الحدث للوهلة الأولى كالعادة. ولكن بعده وصلت إلى قيادة المنطقة الوسطى شكوى من وكالة الأنباء “إي.بي”، وجاء فيها أن جنود “نيتسح يهودا” الذين كانوا في المكان سرقوا من مصور الوكالة القائم الثلاثي الذي يضع عليه الكاميرا. نفى الجنود هذا الأمر عند سؤالهم من قبل القادة. ولكن الجهات التي تحدثت مع “هآرتس” قالت: إن موضوع الشكوى وصل إلى مستويات عليا في الجيش، وتقرر إرسال قائد لواء المنطقة من أجل فحص الأمر. في التفتيش الذي جرى في الموقع وجد القائم؛ لقد كان موجوداً قرب سكن الجنود. “انتهى هذا الأمر بتوبيخ الجنود، وليس أكثر من ذلك”، قال جندي سابق من نيتسح يهودا يعرف عن الحدث.
تراكم هذا التوبيخ ينضم بصورة طبيعية تقريباً إلى أحداث الأيام الأخيرة وإلى التعامل الخفيف من قبل الضباط الكبار مع الجنود المتورطين بموت عمر عبد المجيد أسعد. صحيح أن الحادثة اعتبرت “خطيرة ومؤسفة وفشلاً قيمياً للقوة وخدراً في الحواس”، إلا أن القضية انتهت بعقوبة خفيفة فقط للقادة، الأكثر خطورة من بينها كانت لقائد السرية وقائد الفصيل، اللذين سيضطران إلى الانتظار سنتين من أجل تسلم وظيفة قيادية قادمة، كما يبدو في إطار نيتسح يهودا.
علمت “هآرتس” أيضاً أنه لم يتم النشر على الملأ لكل الدور الذي كان لقائد السرية وقائد الفصيل في القصة. تبين أنه في إطار نتائج التحقيق القيادي أن قائد الفصيل شهد بأنه عندما أراد مغادرة المكان هو وجنوده لاحظ أن أسعد لا يستجيب ويبدو أنه فاقد الوعي. صحيح أنه تمسك بروايته بأنه لم يفهم أن أسعد قد مات، بل اعتقد أنه نائم. ولكنه قال: إنه قام بإبلاغ قائد السرية عن عدم استجابة أسعد. هذا القائد، حسب التحقيق، قال: إنه لا يتذكر ذلك. على أي حال، ما قاله قائد الفصيل لم يصل إلى علم المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي أو إلى الإحاطات التي قدمت لوسائل الإعلام. ليس الجميع متفاجئين من هذه المعلومة المثيرة للاهتمام. “في الجيش الإسرائيلي مثلما هو الأمر في الجيش الإسرائيلي”، قال مصدر عسكري كبير سابق. “يختارون معالجة البعوض، وليس تجفيف المستنقع”.
بشكل عام، منذ نشر تحقيق القيادة اهتموا في الجيش بإغداق الثناء على الكتيبة بتصريحات لقادة كبار ومقالات في وسائل الإعلام. “يوجد في الكتيبة جنود ممتازون ولا أرى في هذه الكتيبة مليشيا”، قال قائد المنطقة الوسطى، يهودا فوكس، في إحاطته للمراسلين العسكريين. “في نصف السنة الأخير تدرك هذه الكتيبة الظل الذي أُلقي عليها، وتنشغل أكثر بأحداث كهذه وعلى الفور يتم الإبلاغ عنها”.
“تسامح” القادة والمحاكم!
التسامح مع ما يجري في “نيتسح يهودا” ليس فقط ما قام به قادة الكتيبة والقيادة العليا للجيش الإسرائيلي، بل أيضاً ما قامت به المحاكم العسكرية، هذا ما يظهره لنا الحكم الذي صدر في تشرين الثاني 2019. في هذه الحادثة هاجم جندي من الكتيبة أشخاصاً بدواً في محطة وقود في جنوب البلاد “دون تحد مسبق من جانبهم، وفي الوقت الذي كان فيه هؤلاء يحاولون استدعاء شرطة إسرائيل”، هكذا جاء في لائحة الاتهام التي قدمتها النيابة العامة العسكرية. وكتب أيضاً أن زملاءه في الوحدة كانوا في البداية يوجدون في الحافلة، ونزلوا منها وهم يحملون السلاح، وهاجموا في بضع دقائق مواطنين كانوا في المكان عن طريق الضرب وتوجيه البنادق المشحونة نحوهم”. ولكن هذه الحادثة انتهت بشهر ونصف الشهر سجن للجندي الذي بدأ الهجوم وعقوبة انضباطية للباقين.
“المتهم هو جندي تجند للجيش رغم أنه كان يمكنه أن يختار مواصلة التعليم التوراتي”، هكذا برر القضاة العقوبة الخفيفة. “في رأي الخبير وتوصيات معلمي وقادة المتهم يتبين أن الأمر يتعلق بشاب له صفات جيدة، جندي إيجابي ينفذ مهماته على أفضل وجه”. مثال آخر على العقوبة الخفيفة التي فرضت قبل ثمانية أشهر من ذلك، في 19 آذار 2019 مثل أمام المحكمة جنود من نيتسح يهودا، ممن صوروا أنفسهم وهم ينكلون بمعتقلين فلسطينيين اشتبه فيهم بأنهم قدموا المساعدة لعملية قرب البؤرة الاستيطانية “جفعات أساف”، التي قتل فيها أصدقاء لهم في الوحدة. انتهت هذه الحادثة بصفقة. الجندي الذي قاد الأعمال حكم أربعة أشهر ونصف الشهر سجناً، والآخرون خرجوا بعقوبة انضباطية فقط.
في إطار هذه العملية قدم قادة وحاخامات شهادات عن الجنود المتورطين. “حسب انطباع الحاخام”، كتب في قرار الحكم، “المتهم وشركاؤه في القضية تعلموا الدرس. ولصالحهم، يجب أن ننسب التضحية التي قدموها بقرارهم التجند مع كل الأثمان العائلية والاجتماعية التي ترافقه”. قائد الكتيبة في زمن الحادثة، المقدم نيتئي عوكشي، أشار هو الآخر إلى “الخلفية المعقدة التي يأتي منها جنود الكتيبة”. وقال: “إن اعتقال الجنود كان صدمة أدت هي أيضاً إلى تعلم الدروس. وطالب القضاة باستخدام الرحمة إزاء إسهامهم والحقوق الكثيرة التي راكموها”.
وجاء عن المتحدث بلسان الجيش بأن “كتيبة نيتسح يهودا تنفذ نشاطات عملياتية في يهودا والسامرة، وبهذا هي تساهم في أمن دولة إسرائيل. الاعتبارات في تموقع الكتيبة تحدد على ضوء الحاجة العملياتية مع الحفاظ على نمط حياة الجنود المتدينين. لا نعرف عن الادعاء بدخول رؤساء المستوطنين. الحاخامات الذين يدخلون إلى الكتيبة هم فقط الحاخامات الذين تم السماح لهم بذلك عن طريق النهج المتبع في الجيش. الجنود الذين يرتكبون أي مخالفة أثناء العطلة يتم التعامل معهم بصورة فورية، كما يقتضي القانون مثل أي مواطن في دولة إسرائيل”.