هآرتس – «الأبارتهايد» شَرك مُحكَم يمسك بجميع رعاياه

حجم الخط

هآرتس  – بقلم: يولي نوفيك

 

قبل لحظة من مناقشة هل نحن “أبرتهايد أم لا”، أقترح أن نسأل انفسنا سؤالاً آخر وهو هل إذا كنا حقاً شيئاً كهذا، رعايا مفضلين لنظام “أبرتهايد”، هل نحن قادرون على رؤية ذلك؟
بعد سنوات من الدراسة والتعرف على الطريقة التي يؤثر فيها منطق حكم كهذا على الروح والوعي، أنا على ثقة أنه لا يمكن فهم ما هو “الأبارتهايد” دون أن نأخذ في الحسبان عناصر جوهرية فيه: الخوف والعمى. هذه المكونات هي أساسية جدا في آلية هذا النظام، حيث إنه عندما نعيش في ظله فإن كل تفكير أو فكرة أو محادثة، بالضرورة ستمس بها. “الأبارتهايد” كشكل للنظام، وكمنطق بحسبه يعمل جهاز الدولة، هو شرك محكم يحوي داخله كل رعاياه، حتى أولئك الذين تقدم لهم هذه المنظومة أفضلية مدمجة.
نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا خلق على يد الافريكانيين، على خلفية رواية قومية من التدمير والبطولة: في قصة الافارقة فإن البريطانيين المحتلين حاولوا وبصورة وحشية، لكن دون نجاح، تصفيتهم. وفي الحقيقة في بداية القرن العشرين أقام البريطانيون في جنوب افريقيا معسكرات التجميع الاولى في التاريخ والتي تم جلب آلاف العائلات الجاهلة اليها (مثلما سمي الافارقة قبل تبلور شخصيتهم القومية) كي يموتوا من الجوع ومن الأمراض. إنشاء نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا كان بالنسبة للافريكانيين استمرارا لتجسيد حقهم في تقرير المصير ووجود قومي مستقل في وطنهم. ولا يقل عن ذلك أهمية أن “الأبارتهايد” كان هو الرد السياسي الذي وجدوه لـ”مشكلتهم الديمغرافية”. في العام 1952 شرح بايت سلي، الصحافي الافريكاني المعروف، شيئا ما عن خلفية انشاء نظام الفصل المكاني والقانوني: “مثل اليهود في فلسطين والمسلمين في باكستان، ايضا الافريكان لم يقاتلوا من اجل التحرر من سيطرة البريطانيين فقط من أجل أن يجدوا انفسهم محكومين من قبل أغلبية أخرى”.
الخطط السياسية للنظام في جنوب افريقيا من أجل تقسيم المكان، عن طريق اقامة البنتوستانات التي ستتحول ذات يوم الى مناطق للحكم الذاتي، والدفع قدما بسياسة “تطور منفصل” لابناء الجاليات العرقية المختلفة مكنت أيضا ليبراليين من العيش بسلام مع فكرة “الأبارتهايد” والفصل. هم لم يعتبروا أنفسهم عنصريين ولم يعتقدوا أن “الأبارتهايد” هو أمر سيئ أو غير ديمقراطي. بالنسبة للكثيرين منهم، جنوب افريقيا التي كان سائدا فيها “الأبارتهايد” كانت الديمقراطية الوحيدة في افريقيا، ونموذجا لدولة سليمة: مع اقتصاد ينمو سريعا، ومع الجيش الاقوى في القارة الذي يتجند له بفخر كل ابناء الـ 18 من اجل أن يخوضوا الحروب العادلة والضرورية مع الدول التي حولهم. كان لهم الكثير مما يتفاخرون به. والكثير ايضا مما يخافون منه. عندما نظر البيض في جنوب افريقيا في حينه إلى عمليات “ما بعد الكولونيالية” في دول اخرى في افريقيا ارتعدت فرائسهم. كانوا على قناعة بأنه اذا سيطرت الاغلبية السوداء على جنوب افريقيا فهذه ستكون نهايتهم. لذلك فإن “الأبارتهايد” كان هو طريقهم للحفاظ على اغلبية بيضاء في الدولة من خلال توسيع الفضاء.
في جنوب افريقيا، كان الخوف الصمغ الذي أبقى النظام على حاله. في ظل “الأبارتهايد” فإن الخوف هو الذي يحرك سلسلة المبررات، ويخلق أيضا العمى. وهو ايضا الذي يؤدي الى أن أي فكرة تنحرف عن الفرضيات الاساسية للنظام تعتبر على الفور “فكرة لا أساس لها”. شرك، هل سبق لنا أن قلنا ذلك؟
أمام هذا النظام المعقد فإن الامر يحتاج الى نوع جديد من الشجاعة، ليس فقط فكرية بل عاطفية ايضا، شجاعة مبنية على الاستقامة. كخطوة مبدئية يجب على المرء النظر الى الخوف بدلا من الرد عليه. عندما أتجرأ على أن أسأل نفسي ما الذي يخيف جدا في التفكير بأنفسنا وباسرائيل كدولة “أبرتهايد”، ألاحظ في أعماقي انواعاً مختلفة من الخوف المتشابكة مع بعضها.
صراع الهويات هو الخوف الأول والاساسي. ولدتُ لأكون اسرائيليا صهيونيا. ما هو معنى الاعتراف بأن النظام في اسرائيل، المنظومة التي ترعرعت فيها وتعلمت فيها والتي قدمت لي من البداية الأمن، هو “كهذا”، ماذا يعني هذا بالنسبة لي؟ ماذا يعني ذلك، على سبيل المثال، بخصوص السنوات الخمس التي خدمت فيها في جيش لنظام غير شرعي؟ ماذا يعني ذلك عن المحكمة العليا لدينا؟ وما هو تأثير ذلك على جهاز التعليم الذي تعلمت فيه؟ في الواقع شيئا فشيئا سيتبلور الفهم بأنه تقريبا كل شيء فعلته في حياتي كان مشوباً بهذا السم: الخوف الشديد.
من الهوية الى الثمن، الذي سبق دفعه من اجل الابقاء على هذه الرواية في مكانها. الضياع والتضحية، من قبلنا ومن قبل الأجيال التي سبقتنا، والتي ستحتاج الى ذلك. لأنه اذا اعترفنا امام انفسنا بأن النظام الاسرائيلي هو حقا نظام “أبرتهايد” فعندها يكون أمام من يلتزمون بقيم الديمقراطية خياران، النضال من أجل تغيير النظام بثمن التنازل عن الافضلية المدمجة التي يمنحنا إياها، أو الاعتراف بأننا جزء من منظومة متوحشة وغير عادلة، واختيار مواصلة العيش بهذه الصورة. هذان خياران فظيعان. بالنسبة لي أحدهما مخيف أكثر من الآخر.
الخوف هناك لا يختفي. ولكن هل يجب الحفاظ على العمى؟ وماذا لو أن هذا الخوف لا يحمينا، بل فقط يحبسنا في شرك لا يسمح لنا بتخيل واقع سياسي آخر؟ على سبيل المثال، واقع فيه استبدال النظام الاسرائيلي لا يؤدي الى الضياع الوطني، أو واقع نستمر فيه في العيش هنا بين البحر والنهر، في ديمقراطية لا توجد فيها افضلية لليهود أو للرجال أو للبيض. أي تحت نظام من النوع الذي وجد في السابق لحدود التخيل السياسي الذي يمليه “الأبارتهايد”.