درس أوكراني فرنسي في الواقعية السياسية

أكرم عطا الله.jpg
حجم الخط

بقلم أكرم عطا الله

 

 

سيظل التركيز على القارة الأوروبية كلما أردنا قراءة السياسة باعتبارها القارة التي ولد فيها العمل السياسي كنتاج للثورة الصناعية والثورة العلمانية، النقابات والاتحادات وفيها تشكلت البرلمانات والامبراطوريات، وعلى أرضها ومنها انطلقت الحروب والمعارك. ولأن الولايات المتحدة لا تصلح للقياس كدولة حديثة ولم تتشكل فيها السياسة نتاج تطور اجتماعي طبيعي ولم تتأسس طبيعياً بل بصفقات وشركات كانت تتطور من الشركة للولاية، ولا المنطقة العربية باعتبارها تمارس السياسة بشكلها البدائي وان كانت هناك أسس عامة تمارس السياسة وفقها.
السياسة ليست مؤسسات إنسانية فهي تعبير عن مصالح الأفراد ومصالح التجمعات والأحزاب بل والشعوب. وحتى تحقق تلك المصالح نفسها لا بد أن تستند إلى قوة كانت عبر التاريخ هي المحرك الرئيسي لها وكان الدم وقودها وكانت السياسة هي التعبير الحقيقي عن موازين القوى على الأرض. فحيثما كانت تصل الدبابة تفرض حدوداً، وكانت طاولات المفاوضات تعبر دوماً عن تلك التوازنات، وفي بعض المعارك حين يتحقق توازن كانت الاتفاقيات تقسم بنودها بين الأطراف، أما في حالة القنبلة النووية فقد كان على هيروهيتو أن يوقع على ورقة بيضاء وهكذا.
الدخول السريع لروسيا إلى أوكرانيا واستسهال القرار يعكس تلخيصا أو يكثف واقع السياسة. فقد قدمت الولايات المتحدة الأميركية من نماذج القوة خلال نصف القرن الماضي ما يجعل الحديث عن الأخلاق والمبادئ والاتفاقيات والقانون الدولي أشبه بنكتة سياسية عندما اجتاحت دولا واغتالت زعماء وقادت انقلابات، وللمفارقة هي من وضع القانون الدولي الذي تدوسه دوماً فوهات مدافعها وجنازير دباباتها وقاذفات قنابلها.
هذا هو واقع السياسة بعيداً عن القانون، وقد قدمت التجربة الفرنسية بين حربين درساً هائلاً عندما انتصرت في الأولى وانهزمت في الثانية لتعطي تجربة فريدة في تاريخ الصراعات، لأن من وقعت ألمانيا به على الاستسلام «المارشال بيتان» هو نفسه الرجل الذي أرغمته ألمانيا على توقيع استسلام فرنسا والتنازل عن باريس في لحظة من أشد لحظات التاريخ إثارة للدهشة.
لن تنسى الذاكرة الفرنسية صورة البطل بيتان العائد من الحرب العالمية الأولى يدخل باريس منتصرا من تحت قوس النصر تغمره الأمة الفرنسية بالزهور وبالأرز بعد أن حطم القوات الألمانية وفرض عليها اتفاقاً مذلاً لا يزيد فيه عدد أفراد الجيش الألماني عن 100 ألف، وأن تدفع ألمانيا تعويضات الحرب لفرنسا والأهم إعادة إقليمي الألزاس واللورين من السيطرة الألمانية.
بعد اثنين وعشرين عاماً، كانت ألمانيا قد بنت قوتها وبدأت بالتعبير عن رغبتها بالتغيير في موازين القوى فدخلت إقليم سوديت بالتشيك، وكان واضحاً أنها أعلنت الحرب على امبراطوريات أوروبا ومنها فرنسا التي أذلتها. وكانت فرنسا قد حشدت كل قوتها شرقاً على الحدود مع ألمانيا وأقامت خط دفاعها الحصين «خط ماجينو» تحسباً لهجوم من الشرق، لكن خطة الجيوش الألمانية الماكرة كانت تجتاح فرنسا من الشمال من بلجيكا وأصبحت داخل المدن الفرنسية فيما جيش باريس عمته الفوضى في الشرق وكان قد انتهى كل شيء.
لم تجد فرنسا إلا استدعاء بطلها التاريخي المارشال بيتان الذي كان سفيراً في إسبانيا ليقود الحرب. حينها كانت الجيوش الفرنسية قد انهزمت ومع تقدم القوات الألمانية لم يرَ بيتان إلا أن يطلب الاستسلام وبأسرع وقت تقليلاً للخسارة. وهكذا كان القائد الألماني يعيد التاريخ مقلوباً ليأخذ بيتان إلى نفس محطة القطار «كومبين» التي وقع فيها هزيمة ألمانيا ليوقع استسلام فرنسا في نفس المكان متخلياً عن باريس للألمان وعلى نفس النص ألا يزيد جيش فرنسا على 100 ألف وأن تدفع حكومة فرنسا تكاليف نفقات الجيش الألماني الذي يحتل الجزء الشمالي مع فرنسا.
هو نفس الرجل ولكن ما الذي تغير؟ هي القوة التي يتكئ عليها. ففي الأولى هو المارشال الذي يقف على رأس جيوش فرنسا الامبراطورية التي انتصرت، وفي الثانية يقف على رأس جيش مهلهل ومهزوم، وهنا درس السياسة لأن الأمر لا يتعلق بأفراد ولا بذكاء ولا كاريزما بقدر ما يتعلق بإمكانيات وعلوم وجيوش وإدارة مهما بلغت قوة الفرد أو القيادة.
مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، عندما شارفت ولاية الرئيس بل كلينتون على النهاية كان على الحزب الجمهوري أن يبحث عن مرشح أمام مرشح الديمقراطيين الشاب نائب الرئيس آل غور، ويذكر التاريخ أن الجمهوريين واجهوا معضلة شديدة ولم يكن جورج بوش الابن على القائمة، ففي الاجتماع في منزل بوش الأب طرح أحد الحاضرين اسمه ليواجه بموجة من الضحك والسخرية لأن بوش الابن ضعيف جداً ويفتقر لأي من مقومات الزعامة ولا يصلح ليكون رئيساً. ولكن مع انحسار الخيارات وافق المجتمعون عليه وحين انتخب كان يقف على رأس منظومة اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية هي الأكثر تفوقاً في العالم واجتاح دولتين وقاد العالم.
ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفيتي وهي العقود الثلاثة التي استفردت فيها الولايات المتحدة بالزعامة كقطب وحيد اختبرت فيها كل شعارات العدل والمواثيق والقوانين والتي سقطت حينها أمام ميزان المصالح وعنجهية القوة، وقد كانت العقود الثلاثة الأشد قسوة على العالم، فقد اجتاحت فيها دولا وقتلت رؤساء وأعدمتهم أمام شعوبهم لتعيد للسياسة مفهومها الحقيقي والمتوحش الذي غاب قليلاً عن الكثير وهو تحقيق المصالح بالقوة لا بالعدل بل بالجيوش والإمكانيات لا بالتمنيات. وحين تستعيد روسيا قوتها فمن الطبيعي أن تعود في لحظة ما وسط صراع واشنطن التي ترفض الدور الصيني كي تقوم روسيا لتعيد القسمة من جديد وفقاً لمستجدات توازناتها.
هنا ربما أزمة العرب الذين يمتلكون من المقومات ما يمكن أن يصنع شيئاً في موازينها إذا ما أحسنوا استخدامها، لكنهم يمارسون السياسة بخفة لا علاقة لها بمعادلاتها وبعضهم تخلى عن تلك الموازين وهنا أيضا أزمة الفلسطينيين الذين دمروا كل شيء من ممكنات القوة لديهم ويتحدثون عن النصر... كان بيتان نموذجاً لواقعية السياسة...!!!!!