إعادة ترتيب العالم

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

بقلم عاطف أبو سيف

 

 

 

للحرب الروسية على أوكرانيا ما بعدها، وستترك أثرها على خارطة العلاقات الدولية لفترات قادمة. مثلها في ذلك مثل كل الحروب التي تكون الأطراف الكبرى جزءاً منها وتنخرط قواتها فيها. فهي ليست مجرد حرب روسية على أوكرانيا أو مجرد رفض أوكراني لبعض المطالب الروسية، ولا هي مجرد توتر إقليمي آخر، إنها حلبة مصغرة لتنافس قوى يعكس نفسه حتى اللحظة في مواقف وتصريحات وإدانات وبعض الإجراءات الدبلوماسية، وهي بذلك حرب أخرى يعاد تكوينها بقواعد وقوانين جديدة. إنه الصراع الذي سيقدر له أن يعيد ترتيب العلاقات داخل القارة الأوروبية، وتعديل ما هو متبع الآن في نمط العلاقات بين روسيا والعالم الغربي.
تذكروا الحرب الباردة لم تنته بعد، وسقوط جدار برلين لم يعن أن العالم طوى صفحة تلك الحرب الشرسة والناعمة في نفس الوقت التي وسمت العلاقة بين المعسكر الشرقي والمعسكر الغربي. سقط جدار برلين ولم تعد نقطة "تشك بوينت تشارلي" قائمة تفصل بين العالمين، ولم تعد ثمة تصريحات عن صراع تسلحي ولا حروب تجري في الفضاء. لكن في الحقيقة ظلت جذوة خفيفة تعتمل تحت السطح الرقيق للسلام العالمي المفترض بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ودخول حلفاء موسكو أندية الناتو والاتحاد الأوروبي. تحولات ضربت العالم وحولته من عالم ثنائي القطب إلى عالم أحادي القطب، وأطاحت بالكثير من النظريات والأطروحات حول مستقبل القوة والصراع في كوكبنا. لكن المؤكد أن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر منذ ذلك الوقت. مياه جرت بهدوء ولم يكن ثمة ما يشير إلى وجود اضطرابات في مجرى النهر تحت الجسر. كل شيء كان يبدو هادئاً وكل شيء كان يبدو مسالماً، وكل شيء كان يبدو كأنه يسير وفق الإيقاع ذاته الذي خلّفه وراءه آخر حجر سقط من جدار برلين. هكذا كنا نحس بالعالم، وهكذا في أحسن الأحوال كان العالم يتجه إلى المزيد من التفرد الأميركي ومن إطلاق النار من شرطي الحي. عزز ذلك اندلاع حروب في الكوكب كانت الطائرات الأميركية من يقودها ويلحق بها العالم، كان يتم تشريع تلك الحروب باسم التدخل الإنساني والحفاظ على السلام العالمي. كانت أميركا تقود العالم كما تشتهي، وربما كان أفضل ما يمكن أن تحلم به دولة من الدول التي كانت تدور في فلك موسكو هو أن تحظى بالدعم والرضا الأميركيَّين. وتم ذلك فعلاً. في أحسن الأحوال كان يمكن توقع أن يتحول العالم إلى عالم متعدد الأقطاب بفضل تزايد الدول صاحبة القدرات النووية، وتطور الجيوش في الكثير من الدول، وازدياد الاعتماد على النانو، الأمر الذي غيّر مفاهيم القوة الكلاسيكية. وكان هذا يصاحب بمحاولة إجراء إصلاحات في مجلس الأمن والهيئات الدولية المختلفة بما يعكس هذا ويوقف الفيتو الأميركي على السلام الحقيقي في الكوكب.
سيتغير العالم؟ يبدو هذا السؤال منطقياً وربما فطرياً ونحن نرى تلك الحرب. وربما تكون الإجابة أكثر حذراً لأن أحداً لا يعرف كيف يمكن أن تتطور الأمور. المؤكد أن أوروبا اختارت حتى اللحظة ألا تحارب. العالم لا يحتمل تكاليف حرب جديدة، وقواه واقتصاداته لن تحتملا المزيد من الخسائر. وكنت على هذه الصحفة قد قلت: إن تكاليف الحرب أكبر من مقدرة العالم على التحمل، وعليه فما شاهدناه أن أوروبا تركت أوكرانيا واكتفت بتقديم الدعم والمساندة، وهي مساندة إذا ما استمرت الحرب قد لا تستمر؛ لأنها ستعني انخراط في الحرب ضد روسيا، وهي تهمة لا ترغبها أوروبا ولا يريد الناتو أن يجد نفسه مضطراً لخوضها.
الواضح أن روسيا قررت أن تضع حداً للطريقة التي تدار بها علاقاتها وعلاقات دولها السابقة مع أوروبا. لسان حالها يقول: على هذا الوضع أن يتوقف. ليس ممكناً تخيل قوات الناتو على الحدود الروسية، وليس ممكناً تخليها في المياه المشاطئة للسواحل الروسية. ثمة قواعد يجب أن تتغير ويجب على واشنطن وحلفائها أن يدركوا أن ثمة حدوداً لا يمكن تجاوزها، وأن ما حدث في الماضي لا يعني أنه سيظل يحدث، وأن المزيد من الانهيارات في نفوذ موسكو في القارة العجوز لن يتم. كان ثمة حديث طويل خلال السنوات العشرين الأخيرة عن يقظة محتملة للدب الروسي، وكان الكل يعتد أن بوتين هو الزعيم القادر على إيقاظ روسيا من سباتها. وهذا اليقين بات واضحاً مؤخراً.
النتيجة المؤكدة لما يجري أن علاقة موسكو مع دولها السابقة ستخضع لعمليات جراحية قاسية، تكفل انضباطاً لم يكن موجوداً أو غاب في ترسيم تلك الدول لعلاقاتها مع الناتو ومع واشنطن. الإحساس أنها باتت تتصرف دون أي مراعاة لمشاعر أو مصالح موسكو. هذا ما يجب أن يتغير. صحيح أن موسكو لن تقوم بإحياء حلف وارسو لأن وارسو لم تعد حليفة، لكنّ ثمة تحالفاً من نوع آخر سيظهر في المنطقة ويساهم في فصل المصالح والمواقف. والحرب الدائرة ستكون شرارة هذا التحالف. لا أحد يعرف شكل هذا التحالف لكنه من المؤكد سيأخذ شكلاً مختلفاً لكن ليس ثابتاً.
مرة أخرى ما يقترحه التصور السابق أن الحرب الباردة لم تنته، وأن ما يجري سيعد تشكيل تلك الحرب ولكن وفق قواعد جديدة. قواعد قوامها أن موسكو في حالة صعود، وأنها ستستخدم قوتها المجربة الآن في فرض بعض المعادلات في تلك الحرب بما يكفل مصالحها ومصالح الدول التي تساندها. سيتغير العالم قليلاً، لكنه هذا القليل الذي سيقول: إن الغد هو نتاج وصورة أخرى من صور الماضي، حيث يتنافس الجميع، وحيث يسعى الجميع من أجل مصالحه على حساب الآخرين. أين نحن من كل ذلك؟ أقصد العرب. هذا سؤال كبير بحاجة لتأمل آخر.