بعد اكثر من أسبوعين على الغزو الروسي لأوكرانيا، وعلى الرغم من كلّ الكلام بشأن الصعوبات التي تواجهها الخطة العسكرية للرئيس فلاديمير بوتين، وإمكانية أن يتحوّل هذا الغزو إلى حرب استنزاف تدمر أوكرانيا، وتستنزف الجيش الروسي، ثمّة خلاصة أساسية بدأت تظهر بوضوح في كلام الإسرائيليين عن هذه الحرب، بغضّ النظر عن توجهاتهم السياسية، وهي أنّه حتى لو لم ينجح بوتين حتى الآن في إخضاع أوكرانيا عسكرياً، فإنّه نجح في تقويض النظام العالمي الذي كان سائداً وزعزع بصورة عميقة الاستقرارين، السياسي والاقتصادي، في أوروبا، وطرح تحدّياً كبيراً على قيادة الولايات المتحدة ما يسمّى العالم الحر.
كشف الغزو الروسي لأوكرانيا عمق النفوذ الروسي وحجمه في المنطقة عموماً، وفي إسرائيل خصوصاً. وتجلى ذلك من خلال تجنّب إسرائيل إدانة الغزو الروسي، ومحاولة رئيس الحكومة، نفتالي بينت، التوسّط بين روسيا وأوكرانيا. وعلى الرغم من كلّ ما يقال عن انقسام الآراء داخل إسرائيل من موقف الحكومة بين مؤيد ومعارض، فالراهن حتى الآن أنّ الموقف المتذبذب للحكومة من الأزمة الأوكرانية ووساطة نفتالي بينت المزعومة يعكسان، في نهاية المطاف، صورة عن قناعة ضمنية لدى المسؤولين وجزء من الجمهور الإسرائيلي بأنّ من الأفضل، في المرحلة الحالية، عدم الوقوف مع طرف ضد طرف آخر، حتى لو كان هذا الموقف غير أخلاقي، وأنّه يجب تفادي إغضاب الروس.
هناك عدة أسباب وراء هذا الموقف؛ في طليعتها حاجة إسرائيل إلى الضوء الأخضر الروسي للاستمرار في القيام بهجماتها الجوية ضد التمركز العسكري الإيراني في سورية، ورغبتها في الإبقاء على علاقةٍ جيدةٍ مع الروس، بحجة حماية حياة اليهود الذين لا يزالون يعيشون في روسيا وأوكرانيا.
يُطلق الإسرائيليون على هذه السياسة اسم “السير بين النقاط”، إذ على الرغم من التحالف التاريخي مع الولايات المتحدة، لا تبدو إسرائيل، أقله حتى اللحظة، مستعدة للسير وراءها، وتحتفظ لنفسها بهامشٍ من الاستقلالية في موقفها تحت مبرّرات مختلفة، تارة لحماية مصالحها الأمنية، وطَوراً لادّعاء الوساطة، أو حماية اليهود. لكنّ هذه السياسة توجد وراءها أيضاً رغبة إسرائيل في انتظار ما ستسفر عنه المواجهة بين روسيا والغرب بقيادة الولايات المتحدة من خلال الحرب في أوكرانيا، الحرب التي تحولت إلى مواجهة بين استخدام بوتين أسلوب القوة العسكرية المدمرة، لتحقيق أهدافه السياسية، وسلاح العقوبات الاقتصادية القاسية الذي يستخدمه الغرب والولايات المتحدة. ويتساءل الإسرائيليون عما إذا كان سلاح العقوبات الذي سبق أن استخدمته الولايات المتحدة ضد إيران، وفشل فشلاً ذريعاً، والدليل على ذلك مفاوضات فيينا التي هدفها العودة إلى الاتفاق النووي الأصلي، مقابل رفع العقوبات عن إيران، سينجح، هذه المرّة، في لجم القوة العسكرية لبوتين، ويمنعه من تحقيق أهدافه.
تميل التقديرات الإسرائيلية إلى أن المقاومة الأوكرانية الشرسة للغزو الروسي لا تستطيع أن تصمد وقتاً طويلاً في وجه آلة الحرب الروسية المدمرة من دون مشاركة فاعلة للغرب في القتال، وهذا ما ترفضه الدول الأوروبية والولايات المتحدة، خوفاً من الانزلاق إلى حرب عالمية ثالثة. وعلى الرغم من الأثمان الباهظة التي تدفعها روسيا لهذه الحرب، ليس هناك ما يدلّ على أن بوتين مستعد للتنازل قيد أنملة عن مطالبه من الأوكرانيين، أي إسقاط الحكومة الأوكرانية الحالية بزعامة زيلينسكي، وإعلان انتصار الجيش الروسي.
الدرس الإسرائيلي الأهم من الحرب على أوكرانيا أنّ على إسرائيل، من الآن وصاعداً، الاعتماد على قواها الذاتية في حربها ضد خصومها، ولا سيما الحرب على البرنامج النووي الإيراني، والاقتناع بأن المشهد الشرق أوسطي يشهد تغييراتٍ متسارعة، إذ يمكن، بين ليلة وضحاها، أن يتحول الأعداء إلى أصدقاء، والأصدقاء إلى أعداء. على سبيل المثال، ساعدت الحرب على أوكرانيا، بنظر إسرائيل، في تأجيل التوصل إلى ابرام الاتفاق النووي، والشروط الجديدة التي وضعتها روسيا على الاتفاق تصبّ في مصلحة إسرائيل التي تريد بشدة إفشال المساعي الأميركية المحمومة للتوصل إلى اتفاق.
درس إسرائيلي آخر مهم، هو ضرورة انتهاج استراتيجية جديدة مختلفة، قادرة على التعامل مع المتغيرات الكثيرة التي تبدو، أحياناً، لا منطقية، ولا تتطابق مع المعايير العقلانية المعتمدة في الاستراتيجية الإسرائيلية التقليدية، وفتح المجال أمام تحالفاتٍ من أنواع أخرى وأطراف متعدّدة. ويبرز، ضمن هذا الإطار، التحول في المقاربة الإسرائيلية للمواجهة مع إيران، من خلال نقل هذه المواجهة إلى داخل الأراضي الإيرانية نفسها، أو إلى مناطق قريبة منها جداً، أو كما قال بينت “ضرب رأس الأخطبوط، لا أذرعه فقط”. وهذا ما يفسّر الزيارات المتتالية للسياسيين والعسكريين الإسرائيليين للبحرين مثلاً، ومحاولات إسرائيل لإنشاء وجود عسكري لها بالقرب من إيران.
ما يمكن قوله، أنّ إسرائيل نجحت في الموازنة بين تحالفها الاستراتيجي مع الولايات المتحدة والمحافظة على مصالحها الأمنية والعسكرية مع روسيا. لكنّ ذلك كلّه رهن بتطور مسار الحرب المستعرة اليوم. لكن، هل في ظل الحديث عن احتمال استخدام بوتين السلاح الكيميائي، سيجبر إسرائيل على التخلي عن الوقوف على الحياد، وستكون مجبرة على الوقوف مع طرف ضد آخر؟
عن “العربي الجديد”