.. عندما رفع بوتين سقف المقامرة في أوكرانيا

عاموس-هرئيل.jpg
حجم الخط

بقلم: عاموس هرئيل

 

 


قبيل بداية الأسبوع الرابع على الحرب في أوكرانيا، التي ما زال الكرملين يصرّ على اعتبارها عملية عسكرية محدودة، يزداد قليلاً الأمل في وقف إطلاق النار. حتى صباح أمس، الاتصالات بين الطرفين لم تثمر أي اختراقة حقيقية كما يبدو. في هذه الأثناء ينشر التحديث الاستخباري، اليوم (أمس)، لوزارة الدفاع البريطانية، وهي من المصادر الأكثر موثوقية عن وضع الحرب، بأن تقدم "الغزو الروسي لأوكرانيا يتأخر في كل الجبهات. القوات الروسية نفذت تقدماً صغيراً على الصعد البرية والبحرية والجوية في الأيام الأخيرة، وهي تواصل تكبد خسائر فادحة. المقاومة الأوكرانية ما زالت مصممة ومنسقة جيداً. أغلبية الأراضي الساحقة، بما في ذلك المدن الكبرى، بقيت في أيدي الأوكرانيين". حسب تقديرات البنتاغون فقد قتل في المعارك نحو 7 آلاف جندي روسي.
غزو أوكرانيا، بالأساس تبعيته مثل القدرة على الصمود للشعب المهاجم، الموقف الصلب نسبياً الذي يقفه الغرب ضد الروس، يبدو مثل انعطافة عالمية مهمة، وهو الثاني خلال سنتين (بعد وباء "كورونا"). التطورات العملياتية على الأرض فاجأت معظم الخبراء، وبالتأكيد سيتم تدريسها في المدارس العسكرية. ولكن يوجد هنا أيضاً إمكانية كامنة لتغييرات إستراتيجية للعلاقات بين الدول العظمى. أخذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على عاتقه مراهنة كبيرة، التي حتى الآن لم تجد نفعاً. رغم التفوق العسكري الواضح لقواته إلا أنه يمكن أن يجد نفسه أمام أفغانستان جديدة على أراضي أوروبا.
سيثقل تورط بوتين في الوحل الأوكراني على علاقات روسيا مع الغرب لسنوات قادمة. في حين أن الولايات المتحدة، ومن الناحية الأخرى الصين، تنظر إلى الحرب في أوكرانيا كجبهة تجارب التي يتم فيها إعادة فحص علاقات القوى العالمية، تمهيداً لاحتمالية مواجهة أكثر مباشرة بينهما في العقد القادم.
هذه ليست المقامرة الأولى التي يقوم بها بوتين. ففي الماضي أخذ المخاطر ساعده حتى لو كانت في يديه أوراق سيئة جداً. على العدوان العسكري الروسي في جورجيا (2008) وعلى القرم وشرق أوكرانيا (2014) رد الغرب بالإدانة وهز الكتف دون أن ينجح في ثنيه عن موقفه. رفع الرئيس الروسي مبلغ المقامرة في خريف 2015 في سورية عندما قرر وضع سربين من الطائرات الحربية تحت تصرف نظام الأسد، وهو تدخل حسم في النهاية الحرب الأهلية في سورية لصالح الديكتاتور السوري. بفضل هذه الخطوات أعاد بوتين ونظم لبلاده مكاناً على المنصة العالمية كدولة عظمى يجب أخذها في الحسبان، رغم ضعفها الاقتصادي الواضح. وحتى الآن ربما أنه سيتضح هذه المرة أن بوتين في المقامرة الأوكرانية قد قطع جسراً أبعد من اللازم.
نيري زلبر، صحافي موثوق وجدي ويكتب من إسرائيل نشر، أول من أمس، نبأ مفاجئاً في "فايننشال تايمز" البريطانية. وحسب أقواله، فإن رئيس الحكومة نفتالي بينيت هو الوسيط الدولي الرئيس في الاتصالات بين روسيا وأوكرانيا. على الأجندة هناك خطة مكونة من 15 نقطة لوقف الحرب، والتي تقتضي تنازلات كبيرة من الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، لكنها يمكن أن تنقذ بلاده من خراب آخر ستتسبب به المدفعية والطائرات الروسية. في الخلفية بقيت الشخصيات الكبيرة الأميركية متشككة جداً بخصوص الخطوات الإسرائيلية التي باستثناء محاولة تحقيق بروز للسياسي المبتدئ بينيت في الساحة الدولية، تستهدف كما يبدو التخفيف من الضغط على القدس للانضمام بكامل قوتها إلى عملية العقوبات العالمية التي تقودها واشنطن ضد موسكو.
حذرت نائبة وزيرة الخارجية الأميركية، فيكتوريا نولاند، في هذا الأسبوع، إسرائيل بلغة فظة جداً في مقابلة مع "أخبار 12"، وقالت: "أنتم لا تريدون التحول إلى الملاذ الأخير للأموال القذرة التي تشعل حروب بوتين". في الخلفية، إلى جانب العقوبات، هناك العلاقة المتسامحة التي أظهرتها إسرائيل تجاه الأوليغاركيين اليهود من روسيا طوال سنين. في الوقت الذي رومان أبراموفيتش، الذي يعتبر مقرباً من بوتين، اضطر كما يبدو إلى التنازل عن ممتلكاته في بريطانيا ومنها ملكية فريق تشيلسي لكرة القدم، لم نسمع عن أي قيد فرضته إسرائيل على أبراموفيتش، المواطن الإسرائيلي الذي تبين في هذا الأسبوع أنه نجح أيضاً في التزود بجواز سفر برتغالي بطرق ملتوية.
لقد قال مراقب إسرائيلي مجرب للروس في هذا الأسبوع: إنه ما زال هناك وقت. صحيح أن الخطوات العسكرية للروس ووجهت بمقاومة أوكرانية مفاجئة وبعقوبات دولية واسعة، لكن هذا لا يعني بالضرورة أن بوتين تنازل عن خططه العسكرية. ربما بالتحديد أن دفعه إلى الزاوية سيجبره، حسب رأيه، على مواصلة قصف المدن في شمال وشرق وجنوب أوكرانيا إلى حين تحقيق إنجاز مهم.
روسيا لا تؤمن بهجوم عسكري خاطف. فهي تواصل التصرف كدولة ما زال وقتها بيدها، العقوبات كانت متوقعة (حتى لو كانت أشد مما ظهرت في البداية)، لا أحد يطلق الصواريخ على المواطنين الروس في بيوتهم، ومن ناحية بوتين الساعة الدبلوماسية ستدق بالوتيرة التي يريدها. روسيا ما زالت تبحث عن سبيل لاحتلال أرض وممتلكات مهمة جداً في أوكرانيا من أجل نقل رسالة بشأن تصميمها، وتغيير الزخم لصالحها والتسبب بالتدريج في استنزاف وفقدان الاهتمام لدى الغرب.
لا توجد في الشرق الأوسط في هذه الأثناء علامات على تغيير في السياسة الروسية على أرض المعركة في أوكرانيا. إسرائيل تواصل المهاجمة في سورية، حسب تقارير وسائل الإعلام الأجنبية. آلية منع حدوث احتكاك بين إسرائيل والقوات الروسية في سورية، التي في إطارها يحصل الروس على إنذار محدد من أجل منع المسّ برجالهم، تعمل بشكل جيد. رئيس قسم العمليات في هيئة الأركان العامة، الجنرال عوديد بسيوك، يقوم بإدارة العلاقات العسكرية مع روسيا. الولايات المتحدة في المقابل قلصت مناورة الدفاع السنوية المشتركة مع إسرائيل (جونفر كوبرا) بسبب حاجة القيادة الأوروبية التي تتولى ذلك (يوكوم) للتركيز على ما يحدث في أوكرانيا. الأقسام اللوجستية من المناورة التي تشمل فتح مخازن طوارئ أميركية ستجري كالعادة، لكن لن يكون هذا العام نشر مشترك لمنظومات لاعتراض الصواريخ.
لقد أصبح من الواضح لإسرائيل أنه ستكون هناك دروس كثيرة من تسلسل أحداث المعركة في أوكرانيا. توجد في الحقيقة فجوة كبيرة بين الديمقراطية الإسرائيلية والديكتاتورية الروسية (التي تعود بالتدريج إلى نظام شمولي)، لكن أيضاً هنا اتخذت القرارات طوال سنين من قبل زعيم واحد. إذا عدنا للحظة إلى فترة بنيامين نتنياهو، فإن جميع القرارات الكبيرة، الضغط على أميركا للانسحاب من الاتفاق النووي، ومحاولة ضم المستوطنات في إطار "صفقة القرن" و"اتفاقات أبراهام" مع الإمارات والبحرين، وحتى صفقات الغواصات والسفن، تم اتخاذها فعلياً من قبل شخص واحد ودون آليات رقابة حقيقية. هذا الوضع، مع ضعف السلطات الأخرى، يزيد خطر إساءة الحسابات الذي يمكن أن ينتهي أحياناً بكارثة إستراتيجية.
في الوقت نفسه لا يمكن تجاهل التشابه بين القتال في المدن في أوكرانيا، وبين قتال مشابه يمكن أن يتطور في قطاع غزة أو في جنوب لبنان. في عهد حرب المعلومات والانشغال المتزايد بالشبكات الاجتماعية، ربما أنه سيكون لدى إسرائيل وقت أقل من السابق لتنفيذ خطط عملياتية قبل أن يتحول الرأي العام العالمي ضدها. على الصعيد السياسي والعسكري، يتوقع أيضاً إجراء نقاش واسع في مسألة ما هي الدروس بخصوص بناء القوة البرية للجيش الإسرائيلي. هل تبقي الدولة هوامش دفاع واسعة، لحالة التورط في السنوات القريبة القادمة في حرب كبيرة وغير متوقعة؟

واقع إستراتيجي جديد
هناك حرب مختلفة تدور، في الواقع ليست تحت الضوء، في السنوات الأخيرة، لا سيما في السنة الأخيرة. في هذا الأسبوع كشف منها جزء آخر وحتى أجزاء. إيران هاجمت بالصواريخ ما وصفته بقاعدة استخبارية إسرائيلية في كردستان العراقية، واتضحت ظروف الهجوم الكثيف المنسوب لإسرائيل، والذي نتجت عنه أضرار كبيرة لمشروع الطائرات المسيّرة الإيرانية في شهر شباط، ومجموعة قراصنة إيرانيين تفاخرت باختراقها لهاتف محمول الذي يعود لعائلة رئيس "الموساد"، مع نشر تفاصيل هامشية من داخله.
تحدث هذه الأمور حيث يظهر في الخلفية تقارب بين الدول العظمى وإيران في المحادثات النووية في فيينا. روسيا، وربما إيران، في الواقع تضع صعوبات في اللحظة الأخيرة، لكن التوجه العام بقي باتجاه اتفاق جديد. أول من أمس، أطلقت إيران سراح مواطنَين بريطانيَّين من أصل إيراني، سجنا لديها طوال سنين بذرائع لا أساس لها من ترتيب مؤامرة لإسقاط النظام والتجسس لصالح إسرائيل. بريطانيا في المقابل أفرجت لإيران عن 550 مليون دولار التي طالب النظام في طهران بإعادتها منذ أيام الشاه.
بادرات حسن النية هذه يمكن أن تشير إلى توقيع قريب لن يكون مرضياً لإسرائيل. بينيت والوزراء في الواقع لا يكثرون من التصادم مع الأميركيين علناً، لكن توجد لهم دعاوى كثيرة عن وجود عيوب وثقوب في الاتفاق الوشيك، الذي حسب فهمهم سيضع إسرائيل في وضع أخطر مما كانت فيه لدى التوقيع على الاتفاق الأصلي في 2015. مع ذلك، بصورة غير مباشرة يمكن سماع على الصعيد السياسي في إسرائيل اعتراف متأخر بما قام نتنياهو بنفيه بشدة قبل سبع سنوات، وهو أن الاتفاق الأصلي لم يكن سيئاً جداً بالنسبة لإسرائيل، وبالأساس جعلنا نكسب الوقت، والذي لم يكن أي هجوم عسكري على المنشآت النووية سيحقق مثل هذا الإنجاز.
المشكلة هي أن إرث نتنياهو الذي دفع إدارة ترامب للانسحاب من الاتفاق في 2018 أبقانا مع عيوب رئيسة. الأول، خرق إيران قصّر جداً طريقها لتركيز كمية كافية من اليورانيوم المخصب لإنتاج قنبلة واحدة. ثانياً، إسرائيل لم تستغل هذا الوقت من أجل أن تبرز وتحسن خيارها العسكري.
إذا لم يحدث مرة أخرى، أي تغيير في اللحظة الأخيرة، يبدو أننا نقترب من واقع إستراتيجي جديد. ستعود إيران إلى الاتفاق النووي مع رقابة دولية معينة، لكنها ستفعل ذلك من موقف فيه المعرفة التي تمتلكها (ربما أيضاً جزء من المادة التي تراكمت) تقربها أكثر من إنتاج القنبلة مما كانت عليه الحال في 2015. هذا سيحدث في الوقت الذي سيتدفق فيه إليها بالتدريج عشرات مليارات الدولارات الأخرى كنتيجة لرفع العقوبات الاقتصادية. مستوى الاهتمام الدولي فيما يحدث في الشرق الأوسط سيواصل الانخفاض، على خلفية امتداد الأزمة في أوروبا والتوقعات بشأن اشتداد التوتر بين أميركا والصين.
في الساحة العسكرية – من المرجح أن تستمر الأمور أيضاً بعد التوقيع على الاتفاق – يتوقع حدوث صدامات طويلة بين إسرائيل وإيران، بأبعاد مختلفة. تقول قواعد اللعب الجديدة التي أصبح الإيرانيون يعلنون عنها بشكل علني في وسائل الإعلام الأميركية بوجود رد على كل هجوم. ليس هناك بالضرورة ارتباط بين البعد والمكان الذي يحدث فيه الهجوم وبين طبيعة الهجوم المضاد، وهذه ربما تكون صواريخ أو طائرات مسيّرة أو حوامات أو هجمات سايبر واسعة (محاولة المسّ في منتصف هذا الأسبوع بمواقع إنترنت حكومية في إسرائيل) أو مجرد إزعاج محدد.
تبادل اللكمات بين إسرائيل وإيران يذكر قليلاً بلعبة كرة الماء التي فيها معظم العنف يحدث تحت خط الرؤية للمشاهدين والحكم. الخطر هو أن تراكم الخطوات المتبادلة والتي الكثير منها يحدث على أراضي العدو وليس على أراضي وسيطة مثل سورية والعراق، ستقود في النهاية إلى سوء حسابات الذي نهايته مواجهة عسكرية أوسع، حتى لو دخل البرنامج النووي مرة أخرى إلى التجميد. يكثر بينيت الحديث في منتديات مغلقة عن إستراتيجية "الموت من ألف جرح" التي يقودها ضد إيران. ولكن في هذه المعركة أيضاً إسرائيل يمكن أحياناً أن تُجرح وتنزف.

عن "هآرتس"