خيارات بوتين في ظل التنافس الأميركي ـ الصيني والتردد الأوروبي

احمد عجاج.jpg
حجم الخط

بقلم أحمد محمود عجاج

 

 

عندما حذَّر الرئيس الأميركي نظيره الصيني، يوم الجمعة 18 مارس (آذار)، من تبعات دعم روسيا بالأسلحة أو إمدادها بمقومات الصمود، رد عليه الرئيس الصيني بمثل شعبي: «إن مَن علَّق الجرس في عنق النمر ينزعه». هذا يدل على أن الصين تعتبر أن أميركا سببت أزمة أوكرانيا، وعليها أن تجد حلاً، لا أن تهدد الصين.
بالمقابل، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام حشد جماهيري في جزيرة القرم، بأن العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا ماضية، وتجري كما هو مخطط لها. وقبل ذلك بوقت قريب، هدد الرئيس بوتين بأن «من يدعم الأوكرانيين ويُعرِّض حياتنا للخطر، فسيتحمل تبعات لا مثيل لها في التاريخ»؛ ملمحاً إلى استخدام السلاح النووي.
ماذا يعني هذا الموقف الصيني، والرد الروسي الحاد؟ يعني أولاً أن الرئيس بوتين قرر أن أمنه يستدعي مغامرة كبرى ولو انتهت بالنووي، ويعني أيضاً أن الصين قررت - احتمالاً - أنها لن تترك روسيا تنهزم؛ لأن ذلك سيعني استفراداً بها مستقبلاً؛ ويعني ثانياً أن الولايات المتحدة وحلفاءها أصبحوا أمام خيار المواجهة، وأن تراجعهم يعني ليس انكسارهم عسكرياً؛ بل يعني انكساراً لليبرالية التي يعتبرونها النموذج الناجع للبشرية. فالرئيس الصيني – كمثال - لم يُخفِ سراً، أن نظامه أفضل من الليبرالية، وأن الصين بفضل النموذج الصيني (السلطوي) استطاعت أن تصعد بسرعة إلى القمة، وأنها لا تعاني من مشكلات اقتصادية أو اجتماعية كالتي تعاني منها الأنظمة الليبرالية. الأكثر أن القيادة الصينية ترى أن الأولوية ليست للحريات؛ بل للاقتصاد وإطعام الأمعاء الخاوية. كذلك يرى الرئيس الروسي أن النظام الليبرالي هو نظام فاشل، لا يصلح لروسيا، وأن قيم الليبرالية تتعارض مع قيم روسيا، وأن تلك الليبرالية تعمل على تدمير المجتمعات، بإجبارها على التخلي عن قيمها وتاريخها، وتبني قيم جديدة. ومن أبرز الاتهامات التي يسوقها بوتين لليبرالية أنها تدعو للمثلية، والانحلال؛ لذا فإنه اعتبر من يقف ضد روسيا من الروس فيما سماها «العملية الخاصة في أوكرانيا» أنه ينتمي إلى الليبرالية رغم وجوده على الأرض الروسية، ووصف هؤلاء بأنهم خونة وحثالة.
بعيداً عن هذه التوصيفات أعلاه، تقبع حسابات كبرى تمليها مصالح الدول المتصارعة؛ فالولايات المتحدة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي تعاني من روسيا؛ لأنها تدرك تماماً أنها ستشكل مشكلة كبرى مستقبلاً؛ وكذلك تعرف أوروبا أن روسيا القوية ستمثل خطراً عليها وعلى استقرارها؛ وتدرك أوروبا أن روسيا كبيرة وقوية، ولا يمكن أن تكون تابعة للولايات المتحدة، ولكن في الوقت ذاته لا يمكنها أن تكون قوة عظمى. ويبدو أن القيادات الأميركية، وبالتحديد الرئيس كلينتون، لم يستوعب هذه البديهية، فمضى يتعامل مع روسيا معاملة المنهزم، من دون التفكير في كيفية إغراء روسيا لمدارها طواعية وليس قهراً. كما راهن الأميركيون على الرئيس بوريس يلتسين كإصلاحي، مع أنهم كانوا يعرفون أنه مخمور، كما يقول وزير خارجيته أندريه كوزيريف، وأن الرئيس البولندي ليخ فاليسا استطاع، بعد إسكاره، أن يحصل منه على موافقة على انضمام بولندا لحلف «الناتو». وبسبب ضعف يلتسين وصل بوتين ومعه متشددون إلى السلطة؛ هؤلاء المتشددون لم ينفضوا عنهم عقلية الاتحاد السوفياتي؛ بل عملوا على استرجاعه، فتخلصوا من الإصلاحيين، إما تهجيراً أو قتلاً؛ وبهذا عادت روسيا لمسار قديم: لا هي أوروبية ولا هي آسيوية.
هذا الواقع ولَّد عودة المد القومي الديني الروسي، والإيمان بروسيا العظيمة، ولكن حسابات الحقل لا تتطابق مع حسابات البيدر؛ فروسيا رغم حجمها الهائل لا يتعدى ناتجها القومي 1.49 تريليون دولار، أي أقل من إيطاليا (1.89 تريليون دولار) بينما أميركا يصل ناتجها إلى 20.9 تريليون، والصين إلى حوالي 14.7 تريليون دولار. لذا فإن روسيا الطامحة للعظمة تحولت بحكم الواقع طريدة تصطادها قوتان كبيرتان: الصين وأميركا. فالصين لا تريد أن تكون روسيا دولة عظمى؛ لأن ذلك شكَّل تاريخياً - ولا يزال يشكل - تهديداً لأمنها، وكذلك أميركا لا تريد لروسيا أن تهيمن على أوروبا وتريدها تابعة لها؛ لذلك فإن الصين وأميركا رغم خلافهما على كيفية التعامل مع روسيا، تتفقان ضمنياً على هدف واحد: تحجيم روسيا وإخضاعها لمصالحهما.
أما أوروبا، فإن موقفها المستخف بروسيا، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كان خاطئاً بامتياز؛ فأوروبا هي المتأثر الأكبر بروسيا، ومع ذلك لم تفهم الفرصة التاريخية التي سنحت بسقوط الاتحاد السوفياتي؛ فتاريخياً تنظر أوروبا إلى روسيا بعين دونية، وترفض أن تُجلسها المكان اللائق؛ لذلك فاتها أن تصحح هذا الخطأ التاريخي، ومضت تضع مواصفات متشددة يجب على روسيا الإيفاء بها لكي تنضم إلى المنظومة الاقتصادية الأوروبية؛ هذه المواصفات لم ترافقها مساعدة اقتصادية هائلة مشابهة لمساعدة ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ بل رافقها تصعيد للشروط، والتسامح مع الأوليغارشية الروسية التي نهبت مال الشعب الروسي، وأودعته في بنوك أوروبا. هذا السلوك أعطى القوميين المتشددين - وعلى رأسهم بوتين - الدليل على أن روسيا في خطر، وأن على الروس أن يدافعوا عن بلدهم؛ لذا وصف بوتين انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه أكبر كارثة في القرن العشرين. ومن هنا يمكن فهم سلوك بوتين، وخوفه من الغرب، واضطراره لأن يذهب للصين للموازنة في هذه الحرب التي وصفها بالوجودية.
هكذا ساق بوتين بلاده إلى أزمة أكبر من أزمة أوكرانيا؛ أزمة تتمثل بحاجته للصين واضطراره لأن يتنازل عن الكثير، وهذا يتعارض مع منطقه القومي ومكانة روسيا؛ وكذلك اضطراره إلى المضي قدماً في المواجهة مع الغرب، رغم صعوبة كسبه تلك المعركة الطويلة، مهدداً باحتمال استخدام السلاح النووي، لكن هذا التهديد سيؤدي إلى تدمير روسيا؛ لأن خصومه أقوى نووياً؛ لذلك فإن خيارات بوتين تضيق يوماً بعد يوم، ولا خيار أمامه إلا أن يضع مزيداً من بيضه في سلة الصين، أو يستمر في المواجهة، ومعها احتمال انقلاب الأوليغارشية الروسية عليه، أو يضطر مرغماً للقبول بتسوية تحفظ الحد الأدنى من ماء وجهه.