خطاب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الموجه الى أعضاء الكنيست الإسرائيلي كان خروجاً واضحاً عن النص، وفيه الكثير من الارتجال، كان غارقاً في المقارنات غير المأمونة، ما ترك الكثير من التحفظ لدى الأعضاء، بمن فيهم أولئك المتحمسون لدفع حكومة "بينيت/لابيد/غانتس" نحو اتخاذ موقف أكثر وضوحاً من الاجتياح الروسي لأوكرانيا، وأكثر قرباً من المواقف الغربية، والأميركية على وجه الخصوص. خطاب سيئ الحظ ومتعثر ببساطة.
التعثر بدأ من رغبة زيلينسكي الشديدة في توجيه الخطاب ضمن جولته التي بدأت في البرلمان البريطاني، مروراً بالكونغرس الأميركي والاتحاد الأوروبي، وهو استثناء منحه لإسرائيل دون غيرها في جولته الافتراضية. جولة تتواصل كلما نشأ لقاء أو انتظم اجتماع من نوع الدول السبع والناتو والاتحاد الأوروبي، حيث تنصب شاشة عريضة ويظهر الرئيس الشاب بذقن تواصل نموّها، كلما تمددت الحرب في بلاده يوماً جديداً، وتمنحه مظهر الزعيم المحاصر الذي يرفض الاستسلام.
سفير أوكرانيا لدى إسرائيل يفغن كورنيتشوك نقل رغبة زعيمه الى رئيس الكنيست ميكي ليفي الذي لم يتردد في الاعتذار بسبب بداية العطلة الشتوية للكنيست، وبسبب إجراء أعمال الصيانة والتجديد في المبنى، ما يجعل من دعوة الأعضاء أمراً متعذراً، بينما ورشة الصيانة ستجعل من توفير قاعة وشاشة في المبنى أمراً مستحيلاً.
لن يتوفر الجمهور ولن تحصل على قاعة وشاشة، هذا كان مضمون رد ليفي للسفير، ولكن يمكن توفير لقاء مع عدد محدود من النواب عبر تقنية الزوم.
ترك الرد المتهرب والصادم من رئيس الكنيست خيبة أمل عميقة لدى الجهات الرسمية الأوكرانية، وبدا اقتراح تقنية الزوم مهيناً على نحو خاص.
سيحتج بعض النواب الإسرائيليين وستطرح اقتراحات من نوع الحديث مع لجنتي الخارجية والأمن في الكنيست، ولكن دعوة اجتماع الأعضاء للاستماع لن تتم كما يرغب زيلينسكي، ولن تتكرر لقطة وقوف النواب ومندوبي الدول ولن يحصل على لحظة التصفيق.
في إسرائيل لا يريدون إثارة غضب بوتين، حتى لو اقتضى الأمر غضب بعض الحلفاء وتجاهل نداءات رئيس دولة هو بالمصادفة يهودي ويحمل الجنسية الإسرائيلية، وحتى لو كانت هذه الدولة "أوكرانيا".
الجيش الروسي بأسلحته الثلاثة على حدود الدولة، قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية ومنظومات الدفاع الجوي وكتائب من مشاة البحرية، وجود يسمح بإغلاق الأجواء السورية أمام عمليات قصف التموضع الإيراني في سوريا وطرق إمداد "حزب الله" في لبنان، وهو ما يبدو الآن، على مقربة من إعلان العودة الى الاتفاق النووي، أكثر أهمية من حصار كييف وسقوط ماريوبول ومصير حكومة زيلينسكي وخطابه.
في النهاية تحدث الرجل، تخلى عن شروطه، ألقى خطاباً خارج القاعة لا يورط حكومة بينيت، بدا أكثر حدة من المتوقع، رغم أنه قال كل ما يريده اليمين الإسرائيلي، وذكّر اليهود بخيار أوكرانيا قبل 80 عاماً حماية اليهود، وهو أمر شكك فيه إعلاميون وبرلمانيون في إسرائيل، وعقد مقارنة بين التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل (من الفلسطينيين ومن جيرانها العرب)، وما تتعرض له أوكرانيا، وهو ما رفضه الفلسطينيون وأصدقاؤهم حتى في الغرب، واعتبروه درجة قصوى من النفاق، وذهب أبعد عندما أدخل الهولوكست في المقارنة، ما اعتبره الإسرائيليون تشويهاً فجاً للتاريخ.
ما لم يتنبه له زيلينسكي في حماسته هو أنه في استرساله غير المدروس حاول أن يحصل على مقعد الضحية، المقعد الذي تحتكره إسرائيل منذ ما قبل تأسيسها، ليس هناك سوى ضحية واحدة هي إسرائيل. هذا ما لم يقرأه بدقة رئيس أوكرانيا، حتى بعدما بذل كل شيء، بما فيه نبش أصول غولدا مائير الأوكرانية، وتغييب الفلسطينيين وتجاهل الاحتلال الإسرائيلي والتعامل مع عاصمتهم المحتلة كعاصمة لدولة الاحتلال، والتربيت على كتف نظام الأبارتهيد، حتى بعد تقمص الانفصام في هذا الشأن، لم يستطع أن يحصل على إيماءة إسرائيلية يبدو عبرها ضحية صغيرة الى جانب الضحية الأكبر، وتم التعامل معه كمزوّر للتاريخ ومع خطابه كعملية احتيال لسرقة دور الضحية.
ولكن لا شيء يمكن أن يردع الرئيس الأوكراني عن إلقاء خطاب، كمن يخشى من نسيان العالم له فيما لو لم يذكر العالم بكابوسه الروسي، ينهض ويذهب الى الشاشة، يوزع حاجاته على الكوكب، ولا يتوقف عن جدولة المطالب، حتى أمس طالب حلف الناتو للمرة الخامسة بمنطقة حظر جوي، للمرة الخامسة طالب الحلف بحرب عالمية ثالثة.