عالَم منافق يكافِىء المجرم ويُعاقِب الضحية

حجم الخط

بقلم:نهاد أبو غوش

 

من أكثر التصريحات صدقا وشجاعة في وصف أوضاع الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، تلك التي أدلى بها مؤخرا مايكل لينك مقرر الأمم المتحدة الخاص، والمعني بأوضاع حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي اتهم بها المجتمع الدولي بالسماح لإسرائيل بإرساء نظام الفصل والتمييز العنصري على مدى عقود.

والمهم في هذه التصريحات أنها لم تأت كرأي شخصي مثل كثير من التصريحات والمواقف التي يطلقها في العادة مسؤولون سابقون كالرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر. بل وردت أقوال لينك بشكل رسمي وخلال تقرير مفصل قدمه لجلسة المجلس المنعقدة في جنيف، والتي وصف من خلالها بدقة الخصائص الرئيسية لنظام الفصل العنصري، وتطبيقاته الفظيعة في كل من الضفة حيث نشأ نظام قانوني وسياسي مفرط في التمييز لصالح سبعمئة ألف مستوطن يهودي على حساب ثلاثة ملايين فلسطيني، وفي غزة حيث يعيش مليونا إنسان في سجن كبير مفتوح، محرومين من أبسط الحقوق الإنسانية وفي مقدمتها الماء الصالح للشرب، والكهرباء والصحة والسفر.

سبق هذه التصريحات تقارير دامغة ومفصلة أصدرتها أولا منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية المعروفة بمهنيتها وكفاءتها العالية، ثم توالت التقارير من قبل كل من منظمة “بيتسيلم” الإسرائيلية، ومنظمة “هيومان رايتس ووتش” الدولية التي تتخذ من نيويورك مقرا لها، ثم في التقرير الأشمل الذي اصدرته منظمة العفو الدولية “أمنيستي” مطلع العام الجاري.لكن ما يميز تصريحات لينك أنه يركز على مسؤولية المجتمع الدولي الذي برأيه يتحمل كثيرا من المسؤولية عما وصلت إليه الأمور، مشيرا إلى أن كلا من مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة أصدرا مئات القرارات خلال العقود الخمسة الماضية، والتي أكدت جميعها عدم قانونية المستوطنات وعدم شرعية قرارات الضم، وأن إنكار حق تقرير المصير للفلسطينيين يمثل انتهاكا للقانون الدولي.

تبرز أهمية تصريحات لينك في تحميله مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة للمجتمع الدولي، من خلال ما تظهره في هذا الوقت بالتحديد مختلف المؤسسات الدولية والاتحادات القارية والإقليمية، من ازدواجية صارخة في المعايير وسياسة الكيل بمكيالين بين طريقة تعاملها مع الأزمة الأوكرانية والقضية الفلسطينية، ففي الحالة الأولى ومن اليوم الأول للحرب أو للعملية الروسية العسكرية في دونباس، وحّد الغرب صفوفه، واستخدم كل وسائل الترهيب والترغيب لكي يجنّد خلفه جميع الدول والتكتلات التي تدور في فلكه.

وقرر الغرب بزعامة الولايات المتحدة حزمة من العقوبات التي لا سابق لها ضد روسيا القيادة والدولة والمجتمع والإنسان والتاريخ، فشملت كل الإجراءات المالية والاقتصادية وتجميد الأموال، وامتدت لتشمل مختلف ميادين الرياضة والفن عبر مقاطعة رموز الثقافة الروسية التي هي في حقيقتها رموز للثقافة الإنسانية العابرة للحدود والأجيال، مثل أعمال الروائي دوستويفسكي والموسيقار تشايكوفسكي، وصولا إلى حرمان المنتخب الروسي من مواصلة مشواره في تصفيات كاس العالم ومقاطعة كل رموز الرياضة الروسية، وكلنا يذكر ما جرى قبل سنوات قليلة، حين عوقب اللاعب المصري محمد أبو تريكة وغيره من الرياضيين الذي أظهروا تعاطفهم مع غزة والشعب الفلسطيني بشكل عام من خلال القيام بإشارات رمزية تضامنا مع أطفال غزة من ضحايا العدوان الإٌسرائيلي.

ولا يكتفي العالم، والغرب تحديدا، بالصمت المريب على ما ترتكبه إسرائيل من جرائم يومية ضد الفلسطينيين، بل إن هذا العالم المنافق يعمد إلى مكافأة إسرائيل وإغداق الامتيازات عليها، وفي المقابل يعاقب الفلسطينيين ويضغط عليهم ويسعى لابتزازهم كما يجري في موضوع حجب المساعدات المقررة وربطها بالإجراءات والتعديلات التي تقترحها الأوساط اليمينية المتطرفة في إسرائيل سواء في موضوع صرف المساعدات المستحقة لعائلات الاسرى والشهداء أو في موضوع تعديل المناهج التي يُزعم احتواؤُها على موادّ تحريضية ولاسامية.

فإسرائيل التي وصفها الرئيس الأميركي جو بايدن بأنها أهم إنجاز سياسي في القرن العشرين، وعلى الرغم من كل التقارير والقرارات الدولية التي تدينها بإدانات دامغة، تحظى بأكبر معدل للمساعدات المالية الأميركية في العالم بالنسبة لنصيب الفرد، وتتمتع باتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، ومعاملة تجارية تفضيلية، واتفاقيات ثنائية مع معظم هذه الدول تتيح للمنتَج الإسرائيلي وصول الأسواق الأوروبية كافة ( إلى جانب الأميركية) من دون عوائق، ويعامل الإسرائيليون في جميع دول الاتحاد الأوروبي كما يعامل مواطنو الاتحاد لجهة التاشيرات المفتوحة وحقوق الإقامة والعمل والاستثمار من دون أية قيود، وتحظى إسرائيل بعضوية عديد المنظمات الرياضية والثقافية والفنية والاجتماعية الأوروبية، مع ان إسرائيل نفسها لا تتصرف وفق مبدا المعاملة بالمثل مع مواطني الاتحاد الأوروبي، فقد تحتجز بعضهم أو تعيدهم من المطار إذا توفرت أدنى الشكوك حول تضامنهم مع الشعب الفلسطيني وحركة المقاطعة، أو إذا تبين أن لهم أصولا فلسطينية أو عربية وإسلامية.

من المؤسف أن يمتد موقف محاباة إسرائيل ومكافأة المجرم ومعاقبة الضحية ليشمل إخوتنا وأبناء جلدتنا العرب وخاصة الدول التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل، وقد بات في وسع إي إسرائيلي سواء كان يمينيا أو يساريا، عسكريا أو مدنيا، مستثمرا أو محتالا ونصابا مجرما، أن يدخل إلى هذه الدول العربية بكل سهولة ويسر في حين يعاني الفلسطيني العادي الأمرّين في سبيل تحصيل تاشيرة دخول حتى للأغراض الإنسانية الملحة كالعلاج والتعليم او زيارة أفراد الأسرة.

لا يمكن لنا أن نعفي أنفسنا من المسؤولية عما آلت إليه الأمور، فنحن الذين اوقعنا أنفسنا في مصيدة الاعتماد على الدعم الخارجي سواء بحسن نية أو بسبب أوهام وحسابات خاطئة، ولتصويب الأمور علينا ألا نكتفي بالشكوى فلن يسمعنا أحد، وبدل ذلك أن نتجه لإعادة الاعتبار لعناصر القوة الكامنة لدينا عبر تفعيلها واستنهاضها من مدخل الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام المقيت.