سأل سائقُ سيارة الأجرة، الراكب الجالس إلى جواره: ما تفسيرك لموجة البرد الشديدة في ذروة فصل الربيع؟
توقعتُ أن تكون إجابة السائق إجابة علمية، تتوافق مع إجابة شاب مثقف في عالم التكنولوجيا الرقمية، توقعتُ أن يُرجع السبب إلى التلوث وإفساد طبقة الأوزون، غير أنني أُصبت بالإحباط حين أجاب هو عن سؤاله: «لقد انتشر السحرُ في بلادنا حتى تحول الصيف إلى شتاء، بالأمس ألقى ساحرٌ (عبوة سحرية) في قاعة فرح مملوءة بالمحتفلين ما أدى إلى حالات إغماء عشرات النساء، وإلى تعطيل سماعات صالة الفرح، وقبل أيام صادرت الشرطة عبوات من (السحالي المجففة) كانت كفيلة بأن تفرق مئات الأزواج وتشتت الأسر!
كان السائقُ يلبس لباساً منسوجاً في مصانع عالم الصناعات الآلية الحديثة، يقود سيارة فاخرة بها كل وسائل الترفيه الرقمية، ويضع أمامه هاتفاً غالي الثمن أنتجته إبداعات العقول. نظر إليَّ في مرآة السيارة، كنتُ أجلس خلفه تماماً، كان يود أن أمتدح تفسيره (المشعوذ) قلتُ له: «لا تنسَ أن موجة البرد ليست في غزة فقط، بل في كل جغرافيا العالم، ما علاقة المشعوذين في بلادنا بأجواء العالم؟!»
ذكَّرني هذا التفسير المشعوذ بأهم الكتب والمراجع في العالم، (قصة الحضارة) للكاتب، ول ديورانت، الأهم في تاريخ حضارة العالم، أمضى المؤلف أكثر من أربعين سنة يجمع صفحاته، جاءت في الموسوعة قصص تشبه قصة الشاب الأنيق، ولكن الاختلاف يكمن في أن قصص الكتاب تعود إلى القرن السادس عشر والسابع عشر الميلادي، وليس الألفية الثالثة، ألفية التكنولوجيا والعلوم، بعد أن تخلص العالم من الشعوذة ومن المهرطقين، مما جاء في الكتاب «إذا هطل المطر بغزارة، ولم يتوقف، كان المشعوذون من الكهنة يدقون أجراس الكنائس، تنبيهاً (للسماء) بضرورة التوقف عن المطر، عام 1526م» (جزء 27 صفحة 115).
وجاء في الجزء 28 صفحة من 225 - 226: «أُحرِقَ عام 1596م مائةٌ وعشرون شخصاً بتهمة إطالة الجو البارد أكثر من المألوف، بطرق شيطانية».
استُخدمت هرطقات الشعوذة لتطويع الشعوب وإسكاتها بلا شرطة أو أجهزة مخابرات، بوسيلة رخيصة، لا تكلف الديكتاتوريين ثمناً، وذلك بنشر الرعب والخوف في أنفسهم من أنفسهم، وجعلهم يعيشون في انتظار الآتي من أيامٍ ستحمل لهم الخلاص من ألم الفقر والاضطهاد والعبودية، دون عمل منتج أو ثورة أو احتجاج!
فما زلتُ أذكُرُ آخر أيام العقيد معمر القذافي العام 2011، حين ظهر أحد المهرطقين في التلفزيون الليبي، اسمه، يوسف شاكير، في بثٍّ مباشر، أطلق بالصوت والصورة سلاحَه الفتاك، (المربوط الليبي) على أميركا وحلفائها، وردد التخاريف الآتية: «كثر الهرج والمرج، فليعم الظلام على الأعداء، ولتنعق البومة السوداء، ولتأتِ طيور الزرب الأخضر ولتخرب أميركا وحلفاءها»!
لماذا اقترنت ألفيةُ الإبداع العلمي والرقمي بإعادة بعث الخرافات والشعوذة بخاصة في الدول النامية والفقيرة، على الرغم من أن تقنيات ألفية الإبداع نقيضٌ للشعوذة والجهالات؟!
لقد خلا عصرُ الإبداع التكنولوجي من منظومة ثقافية توعوية يمكنها أن تنهض بالإنسان ثقافياً وتحرره من ربقة أغلال الشعوذة، بعد أن صارت الثقافة سلعة غالية الثمن، ولم تعد واجباً توعوياً، جرى اغتيال الثقافة كركن رئيس للنهوض بالإنسان، وجرى وأد الثقافة بمعناها الشامل وقصرها على إبداعات التكنولوجيا الرقمية، ليظل لجام القطيع البشري في أيدي محتكري هذه التكنولوجيا، كذلك أسهمَ كثيرون من أدعياء التدين في نشر التخريفات والشعوذة ليجنوا الأرباح، على الرغم من أن الدين الصحيح ينفي الأباطيل والخرافات، كما قال الكاتب أحمد أمين في كتابه «فيض الخاطر»: «إذا دخل الدينُ الصحيحُ من الباب خرجت الخرافاتُ، فالتخريفات تشلُّ العقل، وتجعله غير صالح لمواجهة الحياة الواقعية، فمن يستولِ عليه خيالُ التخاريف، يصبحْ كالحشَّاش والسكِّير، يحسبُ الديكَ حماراً، والهرَّ غزالاً».
أليس نشرُ الخرافات والشعوذة عبودية تجهيلية تجارية جديدة، أكثر سوءًا من عصر الرق السالف؟!
أخيراً، إن إعادة بعث شعار (التثقيف والتوعية كالماء والهواء) ضرورة لإنقاذ البشرية من الهرطقات والتخريفات!