لاشئ في المدينة سوى الدم والعجز، سوى التضحية و التخاذل، سوى التحدي وقلة الحلية . هذا هو المشهد الطاغي المتناقض حد ما قبل الاشتعال بكل ما يلفه من عجز وصمت مريبين . ومع مثل هذا المشهد وكلما تقلبت صفحات الزمن واشتدت ظلمة الطريق، تنهض أمامي ذكرى رحيلك شهيدًا، وأنت في ريعان عطاء الشباب و اتقاد شعلة الأمل. نتوقف في كل ذكرى أمام الهدف الأسمى الذي قدم الشهداء أرواحهم في سبيل بلوغه، ورغم ما يخيم على هذا الطريق من ظلمة حالكة، فإن ذكراك العطرة و ذكرى كل شهداء الوطن تعيد بريق الأمل في قنديل كفاح شعب لن تنكسر إرادته حتى لو ارتعشت قلوب المهيمنين على كل المشهد .
لم تتمكن السنوات الأربعة وأربعين التي مرت على إستشهاده ” في الرابع من نيسان أبريل 1978″ من إزاحة حضور غيابه الطاغي. فوجع تلك اللحظة، عندما تمكنت منه قنبلة عنقودية اسرائيلية خلال معارك التصدي لاجتياح الليطاني في جنوب لبنان ، مازال حياً وطرياً في الذاكرة والوجدان، وما زالت أيضاً ترسم لنا وللأجيال الشابة الجديدة معالم طريق لم يُكتمل بلوغه بعد، بل وتشتد وعورته. كما أن ذكاءه الملفت وتفانيه النادر لم تطويه أو تنل منه تلك السنوات الممتدة من جسر الحاصباني إلى اسدود التي إقتلع أهله منها ولم يكن قد مُنح الحياة بعد .. حتى مخيم الشاطئ الذي ولد فيه ” في السابع والعشرين من ديسمبر كانون أول عام 1950″، وخَطى بين أزقته بداية مشوار كفاحه مع أبناء جيله في ظل النكبة وقساوتها.بل، ربما أن ندرة ما إمتلكه الشهيد من صفات شخصية بالقياس مع ما هو سائد في لحظتنا الراهنة، حيث نفتقد هذه الصفات، تجعل من حضور غيابه مهيمناً ليس فقط على ذكرى إستشهاده، بل بضرورة التشبث أكثر بالأمل الذي قدم حياته وروحه من أجل تحقيقه. فالمخيم يا أخي ما زال أصل الحكاية التي لن تُطوى ، وها هي شرارته تشتعل مجددًا وتمتد يوميًا من مخيم جنين حتى رفح ومخيمها .
لم يكن الشهيد “بشير زقوت” مجرد واحداً من أبناء جيل النكبة الذي ولد ونشأ وترعرع في مخيمات اللجوء، وعركته الحياة في عواصم الترحيل ومراكز الإعتقال العربية والاسرائيلية، بقدر ما كان متمردا على النكبة وهزيمة ١٩٦٧، ومدى خنوع تلك العواصم. عاش وقضى وروحه المشرقة بابتسامته العريضة تبث الأمل وتزرع التفاني من أجل خلاص قادم قلَّ من كانوا قادرين على رؤيته في تلك الأيام.
إن ذكرى إستشهادك يا بشير، وأنت تواجه مع قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية الإجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني في ربيع 1978، موحدين تحت شعار ” لا صوت يعلو فوق صوت تحرير الجنوب”، هي مناسبة ملحّة لنا نحن الذين عايشناك وواكبنا درب الكفاح القاسي بانجازاته و تراجعاته، بأن نتوقف ونفكر ولو قليلًا لإستخلاص عبر و دروس تلك السنوات ومحطاتها .
فشعار وحدة المواجهة دفاعاً عن الجنوب أثمر بعد سنوات ليست طويلة إنتفاضة شعبية مجيدة عام 1987، بدأت في تصويب مسار التاريخ والقضية الوطنية ، حيث صوبت شعار مسيرة الثورة بأن أصبح ” لا صوت يعلو على صوت الانتفاضة”. نعم لقد كانت محطات كفاحية مترابطة كسلسلة طويلة نحو هدف لم ولن يخبو مهما شهد من تراجع أو بدا وكأنه بعيد. فسنوات الأمل وفرسانها لن تُقهر أمام لحظات الإحباط وإن بدت تلك اللحظات عاتية الظلمة لا فكاك منها.
في زمن يبدو وكأنه رديف الردَّة، ما زلت أحتفظ بكلماتك التي باتت دستور حياة لنا، “بأن طريق تحرير الأوطان هو طريق القلة القليلة التي آمنت بحقوق الشعب وحتمية النصر” و ما زلت أيضًا أذكر كلمات والدتنا السورية الفلسطينية الانتماء “أم بشير” وهي تقول للمرحوم طيب الذكر ممدوح نوفل القائد العسكري لقوات الجبهة الديمقراطية في حينه، عندما زارها مواسيًا بعد مواراة جثمانك في بيروت ” أنا لست حزينة إلا أنه استشهد قبل أن يرى دولة فلسطين المستقلة التي طالما حدثني عنها”.
كل واحد من الشهداء كان يقصر بدمائه الطاهرة الطريق نحو حرية الوطن، ويروي شجرة الأمل في الخلاص من عذاب التشرد وظلم الاحتلال، ويستنهض القدرة على تحويل الحزن إلى وعد قادم بالفرح. سؤال الحزن والفرح، كان الأشد ألماً على مدار الأعوام الماضية، فالشهداء يتساءلون، ما الذي يجري؟أهذا ما دفعنا حياتنا من أجله؟ لماذا أصبح الحزن ثقيلاً؟ وماذا حل بوعد الفرح؟!
هربت من سؤال بشير، ولم تتملكني القدرة على الوفاء لذكراه بكلمات يستحقها وكل الشهداء.
يسألني، لماذا لم تذهب بوردة لضريح أمي في عيدها، وهي التي لم تتأخر بورودها عني؟ وأين عصافير البيارات الجميلة عن سماء غزة جيڤارا؟ ولماذا لا تحوم الآن في سماء بلادنا سوى الغربان، وهل ستقوى غزة على هذه الغربان التي تحاول تمزيق تاريخها بعد أن كانت غزة هاشم و أبو إياد و أبو جهاد و معين بسيسو حارسة الهوية ورافعة وحدتها؟!
هدأت روعه، بأن وردة بيضاء زرعت على قبر الوالدة في مقبرة الشيخ رضوان بمدينة غزة الأبية على الانكسار ، وأن رسالته قد وصلت لها مع وعد بزيارة أكيدة ربما في العام القادم، وربما بوعد جديد بالفرح .
كان يأمل بالوفاء لزيارتها لضريحه، وهي التي لم تترك سياجات حدود العواصم تعيقها كلما سنحت فرصة لذلك، لتروي ورود مقبرة الشهداء في بيروت، وكثيراً ما كانت تهتدي لضريحه من علامات ضريح رفيقه “فايز أبو حميد” وسؤالها الدائم؛ هل تُروى أضرحة مقبرة شهداء بيروت أم جفت الورود؟!
ويكبر سؤال الشهداء .. هل ما زال وعدكم لنا بالفرح ؟ إن أرواح الشهداء ..كل الشهداء تعود وتحلق في فضائنا الملبد ، وتبث فينا دوماً بصيص أمل كم نحن بحاجة إليه، ليس فقط لنحمي تضحياتهم أو نحيي ذكراهم الخالدة، بقدر ما نسلتهم من هذة التضحيات وتلك الذكرى إستحقاقات المستقبل لأجيالنا القادمة والبسمة التي يستحقونها في لحظة الخلاص التي قدموا أرواحهم من أجلها.
لذكراك أخي بشير ولذكرى كل الشهداء وردة جورية حمراء نضعها على مثواك وعلى أضرحة كل الشهداء في مقبرة شهداء فلسطين في بيروت وفي كل مكان في هذا الكون، ولروحك ولأرواحهم التي لم تغادر فضاء فلسطين عهد بأن نظل نربي الأمل الذي أشعلتموه لنا، و نظل أيضًا نروي الدالية و الزيتون الذي زرعه أجدادنا في هذه البلاد و رواه الشهداء بدمائهم ،وأمهاتهم بالدموع ، حتى يثمر بسمة على شفاه أطفال فلسطين ، و كم يستحقونها.
كيف لنا أن نوقف القتل.. إن لم نصنع الحياة؟!.
ربما هذا وفاؤنا بل وجوابنا للشهداء ؛رسالة الحياة رغم الحزن والموت، فأيام الحزن كثيرة، وعلينا أن نجعل أيام الفرح القادم أكثر.
“فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض”