يُؤمَر المؤمن بالإمساك عن شهواته ما يقارب الخمسَ عشرة ساعة؛ صيانةً للقلب من أي شيء يزاحمه حتى يخلُص لله ويعمُرَ بذكرِه وتأمُّلِ كلامه. ويجتمع المؤمنون كلَّ ليلة قياماً لله تعالى يرجون رحمته ويخافون عذابه، فيكون اجتماعهم عوناً على سلوك سبيل المتقين. وتُحبس أنفاس الشياطين، وتضيَّقُ مجاريهم من ابن آدم، وتكبَّل أياديهم عن الإضلال؛ ليكمُل تحلِّي المؤمنين بطاعاتهم، ويُخلَّى بينهم وبين خالقهم. ويترقَّب المؤمن ليلة القدر، ليختصر فيها الأزمنة، ويحوز بالعبادة في ليلتها أجورَ عبادة ألف شهر، بل هي {خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: ٣].
وتُضاعف الأجور مما يحفز على كثير من القربات، فليس سقف المضاعفة متوقفاً عند سبعمائة ضعف، بل أمرُ الصوم أعظم من ذلك، والله وحده مَن يعلم أيَّ مدى يبلغه ثواب الصائم، فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به». قال ابن رجب: (الأعمال كلها تُضاعَف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام، فإنه لا ينحصر تضعيفه في هذا العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً كثيرة بغير حصرِ عدد)[1].
كل ذلك الإمداد الإلهي ابتلاءٌ من الله لعباده - والابتلاء يكون بالخير كما يكون بالشر، قال الله تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْـخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] - ليمتحن صدقَ تألُّههم، فأسباب الخير قائمة، ولا يمكن - والحالة تلك - أن يتخلَّف عن ركب الصالحين إلا من عُدِمَ التوفيق وتلفَّع بمروط الخذلان! تأمَّل معي هذا الحديث: جاء في الأدب المفرد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رقى المنبر فقال: «آمين، آمين، آمين». قيل له: يا رسول الله، ما كنت تصنع هذا؟ فكان مما قال: «قال لي جبريل: رَغِم أنفُ عبدٍ دخل عليه رمضان لم يُغفر له. فقلت: آمين».. ما تقدم قبضةٌ من أثر هذا الحديث، فأنت ترى كيف أن جبريل دعا على مَن أدرك رمضان ولم يغفر له لعلمه بعظيم تفضُّل الله على عباده في هذا الشهر، وقد أمَّن النبي صلى الله عليه وسلم على دعائه، فنِعمَ الداعي والمؤمِّن.
وقد جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه»، وقال: «من قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه»، وقال: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه»؛ فهذه موجبات المغفرة قد دنت لكل من أراد اللهَ والدار الآخرة، فلا غرو أنْ رَغِم أنفُ من أدرك رمضان ولم يُغفر له. رمضان إذاً معيار التوفيق والخذلان، فبه يُعلم من وفقه الله لطاعته فأقبل عليه بقلبه وقالبه، وبه يتبيَّن من وَكَله الله إلى نفسه فلم تُجْدِ فيه طلائع التوفيق ولم تأتِ به سحائب المغفرة إلى حيث تلقي رحلَها.
جمعيَّة القلب لبُّ رمضان في العيش مع كلام الله والنهل من معينه، ولا يؤتي ذلك ثمرته ما لم يهيِّئ العبدُ قلبَه ليكون محلاً قابلاً لأنوار القرآن، وتهيئةُ القلب هي ما يسمّيه أهل السلوك: (جمعيَّة القلب) بأن يسعى المرء جاهداً في تخلية قلبه من الشواغل ويقيَه من كل ما يشتّته ويفرِّقه. وجمعيَّة القلب جديرةٌ بأن يصرف المرء كثيراً من أوقاته لتحقيقها، فليس شأنها كعمل الجوارح التي يملك المرء أطرَها على ما يريد، بل هي بحاجة إلى مسيرة مُضنِية يكثر فيها المرء من الالتجاء إلى الله حتى يكرمه بها، ويتنعَّم حينئذٍ بهدايات القرآن. يقول ابن القيم: (الأفضل في وقت قراءة القرآن جمعيَّة القلب والهمة على تدبُّرِه وتفهُّمِه حتى كأنَّ الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظمَ من جمعية قلبِ مَن جاءه كتابٌ من السلطان على ذلك)[2].
إن مما يتقطع له قلب المرء حسرات أن يمر عليه شهر رمضان يقرأ فيه القرآن المرَّةَ بعد الأخرى دون أن يذرف دمعةً لله تعالى محبةً له أو خشيةً منه، وإن من الأسى أن يسمع في صلواته مناديَ الإيمان، فيرى من حوله تتضوَّرُ قلوبُهم فَرَقاً من الله تعالى، ثم ينظر في حاله فإذا هو جثة هامدة خاويةٌ على عروشها أخطأت طريقها فدفنت نفسها بين جموع المصلِّين!
من كان يفقد ربَّه في قلبِـــه *** أنَّى يذوق حلاوةَ الإيمانِ؟!
كلُّ المطالبِ قد تُنالُ بدرهمٍ *** إلا المصيرَ لمنزلِ الإحسانِ
وإن من أظهر شعائر الله في رمضان: الصوم، وأنت لو تأمَّلته لوجدت الغاية منه تحقيقَ (جمعيَّةِ القلب)، فشهواتُ الإنسان من الطعام والشراب والجماع لها أثرٌ على جمعيَّةِ القلب الجالبةِ للتقوى، فمهما اشتغل المرء بتلبية شهواته كان ذلك على حساب تخلية قلبه، ولذا أوجب الله تعالى على عباده الإمساك عن هذه الشهوات، وقال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
ثم تأتي العشر الأواخر من رمضان، تلك التي لازم فيها النبي صلى الله عليه وسلم مسجدَه واعتكف فيه طمعاً في تحقيق (جمعيَّة القلب)، وهذا يجلِّي لك أيَّ مقامٍ لهذه الجمعيَّة في شريعة الله، حيث يمكث المؤمن في معتكَفِه ليُخلِّص قلبه من علائق الدنيا، ويُفرِغَ فيه معانيَ الإيمان، ويسرحَ بذهنه في مشاهد الآخرة وعرصاتها، بعيداً عن كدر الدنيا وشهواتها، وبعيداً عن تلك الحُجُب الفانية التي طالما حالت بينه وبين سيره إلى الله، هناك حيث تصَّعَّد روحُ المؤمن لتبلغ أعلى مقامات الإحسان، وتعبدَ الله كأنها تراه، وتقضي ليلها ونهارها تبتُّلاً لله وذكراً وتفكُّراً في حالها ومآلها، وتنظر كم قطعت من المراحل في طريقها إلى الله تعالى. جمعيَّةُ القلب لله وحدَه سُلَّم التوفيق، وتفرُّقُه عن الله واشتغاله بغيره قرينُ الخذلان، فمن تقرَّب إلى الله تعالى تقرَّب اللهُ منه، ومن نسي اللهَ نسيه، (ولا يهلك على الله إلا هالك)[3].
[1] لطائف المعارف، (283)، ط. دار ابن كثير.
[2] مدارج السالكين، (1: 184)، ط. دار طيبة.
[3] صحيح مسلم، (208).
رابط المادة: http://iswy.co/e2e156