في الأيام الأُول لمحبسي لم أكن قادرًا على تفهم الوضع! فما حصل ليس بسيطًا أبدًا فلقد ألفت حياة الليل إعدادًا وتخطيطًا ولقاءً مع الأصدقاء للمراجعة والمتابعة لمخططات الغد.
وهأنذا اليوم أحدق في سقف الزنزانة الباردة وحيدًا! إنه مظهر لم آلفه وما زلت كذلك وأنا اتخطي عامي العشرين في المعتقل.
لماذا هذه الحلكة وشدة السواد مما لم أدركه فيما هو قبل المعتقل؟
ولماذا هذه الجدران تعتصرني حتى حولتني الى كائن ضعيف يدق جدار البيضة ليخرج لكن منقاره لم يكن قد بزع قويًا!
لماذا هذه القتامة التي أصابتني وأنا أرجو الزوال لمحيطٍ شديد من الكراهية والحقد التي تلاقيني أنَى تحركت في مساحة المعتقل الضيقة ذات العيون المليئة كرهًا والمليئة عنفًا ورغبة بالبطش!
هل تحولنا لمجرد أرقام!؟ ام تحولنا لكائنات منسية!؟
في أيامي الأولى داخل المعتقل لم آلف الظلمة.
كما رفضت أن أنسى من أنا ولماذا أنا هنا.
ومازلت بعد أعوامي العشرين حسنُ الذاكرة رغم تراكم الاوجاع وخفوت بريق الرجاء وازدياد الشدة والسواد الذي لطالما لاحقنا داخل الجدران السوداء، ومن انتهاكات السجان.
جلستُ ليالٍ طوال أتامل في حقيقة الجدران في المعتقل والتي كأنها تطحن أضلعي حتى ظهر جدار الفصل العنصري الإسرائيلي ففهمت منطق الخوف والرعب لدى السجان الذي يسجن نفسه بالجدار فيظن السلامة وهو الى درب الندامة أقرب.
في سواد الليل تبرز الفكرة فأهيم معها أنظر في الزوايا الأربع في الداخل والخارج لعلني أجد مخرجًا لما يعتمل في صدري وفي قلبي أم أن الروح حصن المؤمن قادرة على التجاوز.
لطالما خضت حوارات ذاتية لا تنتهي في الماضي والحاضر والتاريخ والمعاني والمقاصد.
قرأت من الكتب الكثير واطلعت على ما سالت به الأحبار ومما سمحت لنا بتناوله مصلحة السجون وبصعوبة وبطرق التفافية فلم أجد المتنفس الا في أحضان الحياة أو الحيوات الأخرى في أحضان الكتاب المتآزر مع ما قمنا به من دراسات واستطلاعات ودورات كثيرة كانت كأنها إكسير قلبي المولع بالعمل والمتبول بالتقدم والانجاز.
بين الجدران الاربعة كنت أسائل نفسي حول طبيعة العلاقات بين الأشياء والترابط أوالتنافر القائم بينها، وبين الفعل والسكون أيهما أول وأيهما أوقع لاسيما في سكون الليل الذي لم يكن ليقطعه الا اقتحام متكرر من أولئك الجلاوزة المفطورين على البطش ونظرات التشفي حين يجلدون معتقلًا او يشبعونه ضربًا أويطرحونه أرضًا فيعذبونه بلا رحمة او حين ينقل لما يسمى المستشفى في أماني لهم بالزوال لنا.
تفكرت طويلًا لاسيما والأفاق تغلق شيئا فشيئا.
اتنقل بين حالة التعجب ثم حالة الاستغراب ثم في البحث عن المعنى والنتيجة، فلا أجد جوابًا شافيًا فاحار أحيانًا وأشك كثيرًا وأتوه في أحايين أخرى إلا عندما أتذكر وجه أبي الصلب .
وجه أبي الريان الذي وكأنه قد صنع من سفوح حيفا وكرملها الجميل يلازمني، ولكن لا تتوقف الأسئلة في رأسي في حالات أخرى الا حين تكبر الصورة في ذهني لتضم أمي الثمانينية وزوجتي وابني البطل عاهد، وكل الاخوة والأصدقاء الذين شاركوني تلك الأيام ما قبل الحلكة الرابضة على نياط القلب، انهم الأخوة والأصدقاء الذين مازالوا على العهد في ظني وثقتي بهم.
في داخل المعتقل إما أن يذوب الانسان في غياهب ذاته، فينسى أنه إنسان ويتصرف وفق مطالبه الأوليه متحولًا لحيوان كما أرادوه! أي أن ياكل ويشرب ويتقبل نظرات الغضب والحقد والتقزز دون حراك ويرضى بالقليل القليل ولا حق له حتى بالتأفف فكيف بالرفض!
وإما أنه يقاوم فيرفض النسيان، ويرفض الجدران ويرفض الذوبان ويثبت للسجان بل ولذاته أنه إنسان بل هو الانسان وهم منعدميها، ويسعى لرفع ذاته من المستوى المطلبي الحيواني فقط الى المستوى العقلي الراقي، والنفسي المسلكي القويم والى المستوى الروحي المتماهي مع الذات، وبصلة لا تنعدم مع الله سبحانه وتعالى.
استطيع القول أن الكثير الكثير من الأشواق تهبُ عليّ حين تلفح الذكرى وجهي اوتضرب أضلعي ما بين زنزانة وزنزانة وما بين حركة وأخرى، إنها وربي سنوات طوال من رؤية ما لا نرغب، وعدم رؤية ما نحب.
تثور في وجداني الكثير من الأسئلة الوجودية التي ألفتها مع طول المدة، واستطعت أن أقضي على مجنونها بكثير من التأمل وبريق الحرية، وسعادة الإيمان وحسن الجوار مع الله، وفي ظل الحوار الذاتي مع نفسي بما لا ينتهي من السياقات.
أنا في هذا المعتقل وتحت هذه الجدران القاسية منذ أكثر من 20 عامًا وملامح الحرية تبرز أمام ناظري كل يوم.
لا وألف لا لم أفقد الامل بتاتًا. رب كريم ورحيم وعقل قويم.
وقدرة قياسية انتشلتها من غياهب التدجين التي حاول السجان جعلها صيرورة حياتي وكل زملائي، فخاب وما تاب.
نطل عليكم أنتم يا من تعيشون داخل جدران انفسكم او جدران عقولكم ونقول الكثير ولا يصدمني عدم القدرة على التجاوز الذي أظنه قائمًا لدى الكثيرين ممن هم خارج الاسوار الصغرى فكيف لهم فهم معاني الجهاد النبوي بالاكبر والأصغر بل وذلك الكبير؟
إن لم يكن للمرء من النظر أبعد من أرنبة أنفه، فلن يفهم ما أقوله.
لن اختم مقالي هذا الا بالتذكير لحركتنا العملاقة حركة فتح الفتية أبدًا بسواعد الابطال لاقول أن المعتقلين أسماء وليسوا أرقاما بتاتًا فلم يعد يقبل منكم أن تجعلوا حصة المعتقلين في المؤتمر الحركي القادم وفي المجلس الثوري مجرد أرقام!
وهانحن أولاء نتفوق على الظلمة وحصار الجدران، فمالكم لا تخرجون من جدر عقولكم وتنفتحون على مطالبنا المحقة فنحن وانتم في ذات المركب.
بمناسبة يوم الأرض والكرامة التي كنا في الجامعة نحتفل بها دوريًا، جامعتي العظيمة جامعة النجاح وكل أساتذتها وطلابها الأشاوس، وكل جامعات الوطن، أزف البشرى لكل شعبنا العربي والعربي الفلسطيني أن أمة لا تعاف النضال وتحتفي بالبطولة هي أمة باقية.
وأن المرابطين الثابتين والقابضين على الجمر هم المنتصرون أبدًا والله معنا.