كم كنت وحدك، يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أب، حين حوصرت في بيروت صيف عام 1982. وكم كنت وحدك حين حوصرت في رام الله ربيع عام 2002. وكم كنت وحدك حين خذلك “الأبوات” في لقاء قمة النقب ربيع عام 2022. وليس واضحًا أنهم لن يتردّدوا في خذلانك بعد ذلك وأكثر من ذلك، فإذا كان الأمر كذلك، أستغرب وأستهجن فأسال: لماذا تُمعن، يا ابن أمي، في خذلان ذاتك؟ وتحديدًا: لماذا يستمر هذا الانقسام الفلسطيني الفلسطيني البغيض؟ لماذا تعليق عملية إعادة بناء منظمة التحرير على أسس ديمقراطية وجامعة؟ لماذا تعطيل عملية شرعنة السلطة الفلسطينية بالانتخابات الرئاسية والتشريعية المستحقة من زمن؟ ولماذا تأجيل عملية إعادة النظر جديًا في أهداف النضال الوطني ووسائله وحلفائه على ضوء ما استجدّ من أحوال وأهوال؟
لم يكن تخلّي الحكام العرب عن فلسطين وقضاياها جديدًا أو مفاجئًا. فلنقل إنه بدأ مع مباحثات السلام المنفرد بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد عام 1978، إن لم يكن قبل ذلك. وعلى الأرجح أنه سوف يستمر ويتوسّع بعد قمة النقب في مارس/ آذار من العام الحالي. كما لم يكن تخلّي من تخلّى من الحكام العرب عن فلسطين وقضاياها بسبب نقص في عدالة تلك القضايا أو بسبب كراهية فلسطين أو حتى بسبب نقص في التعاطف مع شعبها. لهذا التخلي، في اعتقادي، شقان مكملان هما:
الأول: قضية فلسطين هي ما هي وليست أي شيء آخر. بكلمات أخرى، هي قضية شعب فلسطين وحده، وليست بالتالي قضية شعب مصر أو شعب الإمارات أو شعب المغرب أو أي شعب قُطر عربي آخر. وحسب ذلك، تستمر تلك الدول، المطبّعة منها وغير المطبّعة، في مساعدة الفلسطينيين ماليًا ودبلوماسيًا، تمامًا كما تساعدهم في ذلك دول كثيرة غيرعربية (الدول الاسكندنافية، مثلًا).
الثاني: لكل دولة عربية مصالحها وأهدافها ومخاوفها وتحالفاتها، كما يحدّد ذلك كله حكامها. هذا شأن المملكة المغربية كما هو شأن دولة الإمارات كما هو شأن مصر، وهكذا. وليس من حق الفلسطيني أن يغضب أو يعتب، تمامًا كما ليس من حقه أن يغضب من أو يعتب على مملكة السويد أو الاتحاد السويسري. ويضيف: صحيحٌ أننا كلنا عرب، ولكن هذا لا يفرض علينا التزامات سياسية فائضة. وعلينا أن نأخذ قصص “الإخوة الأعداء” بالجدّية اللازمة أحيانًا.
وإذا وضعنا جانبًا ادّعاء حكام العرب بشأن التوافق أو التطابق بين مصالحهم ومصالح البلاد والشعوب التي يحكمونها، يمكننا القول إن الغائب الأكبر عن أذهان هؤلاء الحكام وأتباعهم وقلوبهم هي فكرة العروبة، أو الفكرة القومية العربية، الملزمة. بكلمات أخرى، فكرة العروبة، أو الفكرة القومية العربية، هي التي ألزمت بالتضامن العربي، وبوضع قضية فلسطين وشعب فلسطين على قمة سلالم أولويات الدول العربية. وفي غيابها أو أفولها، تتصرّف كل دولةٍ عربيةٍ حسب ما تقتضي مصالحها، كما يحدّدها حكامها. ومع غيابها أو أفولها، تبعًا لذلك، انسحبت القضية الفلسطينية من المركز العربي إلى الهامش، واستبدلت مقاطعة إسرائيل بتطبيع بعض الحكام معها، مكرهين كانوا أو طائعين. وأقول مجازفًا: في غياب الفكرة القومية العربية الملزمة، ربما تضيق الفجوة بين حكام العرب وشعوب العرب حين يتعلق الأمر بالتضحية من أجل فلسطين، شعبًا وقضية. وباختصار، كلما كانت الفكرة القومية العربية فاعلةً أكثر زاد الدعم لفلسطين وشعبها، وزاد ردع نزوات تطبيع كامنة أو طافية على السطح مع إسرائيل والصهيونية العالمية. والعكس صحيح. ونحن الفلسطينيين الآن في زمن عربي رديء يصح فيه قول الشاعر الكبير نزار قباني: “أنا يا صديقة متعب بعروبتي”.
ما العمل؟ الغضب على الدول العربية المطبّعة أو العتب عليها، مكرهة على التطبيع كانت أو راغبة فيه، ليس سياسةً وليس بديلًا للسياسة. والنحيب على ما غاب أو أفل من عروبةٍ ليس سياسة وليس بديلًا للسياسة أيضًا. والانكسار ليس، ولا يجب، أن يكون واردًا في جميع الأحوال. فما العمل؟ أو: ما الذي يجب عمله أو الإحجام عن عمله على المستويات المختلفة لحماية القضية الوطنية الفلسطينية، تعزيزها وترقيتها؟ وفي هذا الصدد أقول: ما يلزم وما يلحّ، أولًا وقبل أي شيء آخر، هو إعادة النظر الجدية في المشروع الوطني الفلسطيني، بركائزه الرئيسة الأربع التالية: الممثل الوطني، الأهداف النهائية للنضال، وسائل النضال، والخصوصيات. فالمشروع الوطني يتداعى وينهار أمام أعيننا بسبب تآكل شرعية منظمة التحرير الفلسطينية (البيت الوطني الذي كان جامعًا)، كما بسبب الخلافات حول أفعال النضال الوطني ووسائله وأهدافه النهائية، كما بسبب السكوت المزمن عن مسألة خصوصيات الفلسطينيين، والنابعة عن أوضاعهم الجغرافية والقانونية والمعيشية المختلفة. ولم يعد، في اعتقادي واعتقاد كثيرين غيري، ما يبرّر أو يذرعن تأجيل إعادة النظر الجدية والمستحقة هذه أو تعطيلها. أمّا نقطة الانطلاق فتكمن، من دون أدنى شك، في إعادة شرعنة منظمة التحرير ديمقراطيًا، فبدون ممثل وطني مشرعن ديمقراطيًا، يصبح الحديث عن إعادة تحديد وسائل النضال وأهدافه النهائية شططًا. وفي غياب ممثل مشرعن ديمقراطيًا، يتعذّر، من بين أمور أخرى، تجاوز واقع الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين خصوصًا، وواقع “كل يغني على ليلاه” عمومًا!
غنيٌّ عن القول إن الممثل الوطني الفلسطيني المشرعن ديمقراطيًا وحده المخوّل بمراجعة وسائل النضال وأهدافه النهائية، وكذلك بإعادة تصويب العمل الوطني بناءً على المراجعة المتأنية والمعمقة للتجربة النضالية السابقة والقراءة السليمة للواقع الذي تغيّر كثيرًا في السنوات الأخيرة، فإذا كان الخبراء والعقلاء يقولون لك ولغيرك إن حل الدولتين الذي ناديت وتنادي به قد مات، فلماذا تصم الآذان وتستمر في المناداة به صباح مساء؟ وإذا كان حقًا ما نعيشه في فلسطين غرب النهر وشرق البحر هو واقع دولة واحدة ذات نظام فصل عنصري، كما تؤكّد على ذلك أحكام فقهاء القانون وتقارير منظمات حقوق الإنسان، مثل بتسليم وهيومن رايتس ووتش وأمنستي إنترناشيونال، أوليس واضحًا أن ذلك يتطلّب إعادة النظر جدّيًا بأهداف النضال الوطني ووسائله وحلفائه؟ ولكن يجب ألا يغيب عن الأذهان لحظة أن قيادةً تحظى بالشرعية الديمقراطية للتمثيل الوطني هي وحدها المخولة بإجراء عملية إعادة النظر الجدّية هذه، وإلزام الشعب الفلسطيني بنتائجها. وللإجمال أقول:
أنت حقًا وحدك، يا ابن أمي، بعد أن تخلّى عنك أكثر من أب عربي، كل لأسبابه. وبما أنك وحدك، فمن حقك أن تندب حظك. ولكن من واجبك، في المقابل، أن تعرف كيف تستجمع مصادر قوة جديدة أو كامنة لديك. ووحدتك هي، من دون شك، مصدر قوة لا يستهان به. إذا كنت حقًا وحدك، يا ابن أمي، فمن العيب ومن الطيش استمرار حال التشظّي والانقسام الفلسطيني الداخلي.
أنت وحدك، يا ابن أمي، ولكن قبل أن تتشبث بالشرعية الدولية وقرارتها، عليك أن تعرف كيف تحرص وتصرّ على شرعية من يمثلك وطنيًا، فشرعية الممثل الوطني تمدّه بالقوة والمصداقية التي يحتاجها للتصدّي للتحدّيات الهائلة والعاتية. ومن العيب ومن الطيش أن يستمر في احتكار تمثيلك من تعرّى من غطاء الشرعية منذ زمن، سواء كانت الشرعية الديمقراطية أو الشرعية الثورية. وليكن واضحًا: غير مقبولة تلك الذرائع لتعطيل عملية شرعنة الممثل الوطني بالانتخابات الرئاسية والتشريعية وللمجلس الوطني الفلسطيني.
أنت حقًا وحدك، يا ابن أمي، ولكن: إلى متى تستمر في التلويح والمناداة بحل الدولتين الكلاسيكي، وتستمر في صمّ الآذان والأذهان في وجه أصوات خبراء وفقهاء وعقلاء كثيرين يقولون لك ولغيرك إن مثل هذا الحل قد مات؟ أما حان الأوان، لكي تلوّح وتنادي بحل الدولة الديمقراطية الواحدة أو بحل كونفدرالي من هذا النوع أو ذاك؟ و”متى، يا سيدي، تفهم” أن موت حلّ الدولتين الذي ناديت وتنادي به قد أدخلك في واقع دولة واحدة ذات نظام فصل عنصري؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يتطلب وسائل وأفعال نضال وطني غير التي ألفتها سابقًا، كما يتطلب تحالفات محلية ودولية غير تلك التي ركنت إليها سابقًا.
وأخيرًا، أنت حقًا وحدك يا ابن أكثر من أب عربي تخلى عنك. ولأنك وحدك، حريّ بك أن تكون موحدًا، وأن يكون ممثلك الوطني شرعيًا، وأن تقرأ واقعك جيدًا، وأن يكون كل من الطريق والرفيق والهدف النهائي أكثر وضوحًا لديك. عن “العربي الجديد”