هذه هي القصة كلها: بقلم :جدعون ليفي/صحيفة هآرتس

حجم الخط

جدعون ليفي/صحيفة هآرتس

ولد “رعد حازم” في مخيم جنين في 29 نوفمبر 1993، في الذكرى السنوية لقرار الأمم المتحدة بإقامة دولتين في “فلسطين”. ولد على أمل اتفاقية أوسلو .. ونشأ في فترة تدمير المخيم في حملة “السور الواقي”، فقد كان طفلاً في التاسعة من عمره عندما اجتاحت “الدبابات الإسرائيلية” مخيمه للاجئين، ودمرت بيوته وقتلت 56 من سكانه.
شاهد هذا الطفل الجثث المتدحرجة في الشوارع التي لم يكن من الممكن دفنها حتى رحيل الجيش، ورأى الدبابات وهي تسحق منازل وسيارات السكان الذين كانت حياتهم قاسية ومضطربة، وشاهد الجرافات تسوًي وسط المخيم بالأرض وتحوًله إلى كومة من الخراب “حسبما تفاخر قادة الجيش الاسرائيلي في حينه”.
جلس رعد في مساء هذا اليوم الخميس لمدة 20 دقيقة على مقعد عام في شارع “ديزنغوف” الراقي في تل أبيب، ثم نهض وبدأ في إطلاق النار على الأشخاص الذين كانوا جالسين قبالته “جلسة انبساط” في حانة “اليكا”.
في الصورة التي وُزّعت، بدا رعد وسيماً، وفي صورة أخرى حيث يحمل بندقيتين بدا غاضباً وكئيباً.
قتل رعد حازم اليهود الثلاثة : “تومر مراد” طالب الهندسة الميكانيكية، و”إيتام ماجيني” طالب علم الأعصاب، و”براك لوفان” مدرب تجديف الكاياك (قوارب التجديف)، انهم شباب مثله، ومن الصعب التفكير في اختيار أكثر مثالية لرواية الحكاية كاملة. لا أحد يعرف حقاً ما الذي دار في ذهنه، لكن باستطاعتنا أن نفترض أن حازم أراد أن يعيش حياة ضحاياه، هو لم يحصل على فرصة ابداً، ربما هو أيضاً يرغب في دراسة علم الأعصاب أو الهندسة الميكانيكية أو تدريب التجديف بالكاياك، وهو أيضاً يرغب ب “ساعة انبساط”، وربما يودّ أن يخدم في جيش بلاده مثلهم، وربما حتى في وحدة النخبة التي يفخرون بها.
لكنه وُلد في واقع يستحيل الهروب منه والوصول إلى عوالم ضحاياه في ديزنغوف. هو حتى لا يستطيع الوصول إلى الطريق المستقيم لشارع ديزنغوف، فهو مسجون في مخيم للاجئين وممنوع من الدخول. لربما لم يصل أبداً في حياته إلى شاطئ البحر، وبالتأكيد لم ير قوارب الكاياك.
بدلاً من ذلك فقد رأى الجنود يقتحمون مخيمه كل ليلة تقريباً، يسيئون إليه ويهينونه، ورأى الجيل السابق في المخيم وهم يقاتلون ويُقتَلون بعزم وشجاعة حتى أصبحوا رمزاً، لا يوجد مكان آخر مناضل ومسلح وشجاع مثل مخيم جنين.
إقتلعت قوات الأمن المقعد الذي كان يجلس عليه في ديزنغوف ليلة الهجوم، للحصول على التفاصيل المادية لهذا الرجل المجهول، لكن أي تحليل للحمض النووي لن يروي قصته، تماماً كما لم يتمكن ألف شرطي من العثور عليه عندما كان في شارع قريب.
قوات الشرطة، وشرطة الحدود، و”الشاباك”، و”سيرت همتكال” و”شلداغ” و”يسام” و”اليمام” و”لوطر” وكل ما تبقى من قوات النخبة لن يكونوا قادرين على إخماد نيران هذا المناضل. كل هذه القوى، التي كانت تتدرب منذ سنوات حتى هذه اللحظة بالذات، والتي يتم فيها استثمار المزيد من الموارد، أكثر من الموارد في نظامي الصحة والتعليم مجتمعين، لا يمكن أن تستطيع مواجهة ابن اللاجئين وهو مصمًم في لحظة الاختبار.
لقد كانت صورة معكوسة يبدو أنها مأخوذة من الأفلام: يجلس الشبان من البلد نفسه والعمر نفسه مقابل بعضهم بعضا: ما يسمى “بالغريب” على المقعد العام، متوتر ومضطرب، وأمامه “السكان المحليون” في الحانة، يستمتعون بنزهة ليلة الخميس.
وفي الأيام التي سبقت هذه الليلة الرهيبة، قتل أصدقاء شبان الحانة وجنود الجيش الإسرائيلي وقوات حرس الحدود خمسة شبان في مخيم هذا الشاب “الغريب”. وها هو الآن قد خرج لقتلهم عشوائياً.
وأولئك الذين يجلسون أمامه هم الشخصيات التي يرغب في أن يكون مثلهم، والحياة التي يرغب هو أيضاً في أن يعيشها، والحرية والفرص التي يرغب هو أيضاً في الحصول عليها.
يريد أن يذكر وجوده ويقول: إذا لم يكن لدي مثل هذه الحياة والحقوق، فلن يكون لديك أي منها أبداً، وأنت جالس في الحانة أمامي، هذه هي القصة كلها.
يمكن بناء أكوام من الاستخبارات والأسلحة والعقاب والردع، ونظريات عن التعطش للدماء والحكم الأخلاقي، وعن القتل والموت، وخطط الحرب والعمليات والأسوار، في النهاية هذه هي القصة، هذا ولا شيء سواه.